ظِلٌّ لِهَذَا الظِّل

هُوَ فِي الخَلف. تَفصِلُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُم كُوَّةٌ صغيرة. هُوَ يَرَاهم، ولا أَحَدَ يَرَاه.
القاعةُ تمتلئُ شيئًا فشيئًا بالجمهور، والصَخَب يعلو. في الميعاد المُحدَّد تَنطَفِئُ الأنوار، وتَخْبُو الأصوات: الكلُّ في انتظارك!
وفي الميعاد المحدَّد ينطلقُ الضوءُ من جهاز العرض إلى الشاشة، لأنَّ أصابعه امتدَّتْ إلى الجهاز وأدَارَتْهُ، ليبدأَ الجمهورُ في المشاهدة.
أوَّلَ يومٍ عَمِلتَ فيه هنا شَعُرتَ بالزَّهْوِ لا شكَّ في ذلك، فكلُّ هؤلاء الذين أَتَوا إلى القاعة إنَّما أَتَوا وحَبَسوا الأنفاسَ تَرَقُّبًا للحظةِ التي تَتَّجِهُ فيها أصابعُك إلى الجهاز لتشغيله.  وحدَكَ تبدأ عرضَ الفيلم، وحدك تُوقِفُهُ أثناءَ الاستراحة، ثُمَّ تستأنِفُه، ووحدك تُنهِيه.
بعد أسبوعك الأوَّلِ في المكان اصطحبتَ صديقَ عُمرك «مُحَمَّد سعيد». كنتَ تحاول إخراجه من نوبة اكتئاب استغرقته إِثْرَ فشل قصة حبه الأول، وأنت خبيرٌ بمثل هذا النوع من الفشل. ومن يومها أصبح «مُحمد» رفيق سهرتك كلَّ ليلة. وتقاسمتما الأدوار: أنت تُوَفِّرُ له الدخول المجانيَّ للسينما، وهو يجلب المكيِّفات وصديقاته اللاتي لا يطلبْنَ أكثر من عشاءٍ خفيفٍ ومشاهدة فيلم في دار متواضعة كهذه.
هو عملٌ مؤقتٌ، لكنَّه ممتع.
مُحمد وجد فرصة عمله، أولًا كان حزينًا لأنه سيضطر إلى الانتقال إلى مركزٍ بعيد نسبيًا في إحدى محافظات الصعيد ليعمل مدرسًا هناك، ولن يستطيع أن يعود إلى القاهرة إلا لمَامًا. سَهِرْتُمَا آخِرَ ليلةٍ إلى أن ارتفع الضحى في السماء، وتبادلتما الذكريات والوعود.
منذ أن سافر محمد لم تره مطلقًا. لم تسألْ عنه، ولم يسألْ عنك. كانت تأتيك بعض الأخبار عنه بأن حالته أصبحت ميسورةً إِثْرَ عمله بالدروس الخصوصية، وسمعتَ يومًا أنه تزوج واستقرَّ هناك، ومنذ سنواتٍ لم تسمع شيئًا.
الأسبوعَ الماضي شاهدتَه، وصُعِقتَ!
رأيتَهُ مُتَوَجِّهًا لركوب سيارته الصغيرة ومعه زوجةٌ وثلاثة أطفالٍ تكاد تقترب قامةُ أكبرهما من قامته.
لا تدري كيف تعرَّفتَ عليه. من أين أتى ذلك الكرش وتلك الشعيرات البيضاء؟ متى ربَّى ذلك الشارب؟ ومتى أكَلَ الصلعُ نصفَ رأسه؟
لم يَرَكَ يومها، وتظاهرتَ بأنَّك لم تَرَه. يومَها اكتشفتَ أمامَ المرآة للمرَّة الأولى انحسارَ الشَّعْر لبعض الشيء عن مُقَدِّمَة رأسك. بدأتَ تعدَّ الشعيرات البيضاء في رأسك لدقيقتين، ثُمَّ أقلعتَ عن تلك الفكرة وتوجَّهتَ إلى «عَمَلك المُؤَقَّت».
أنت الآن في غرفتك الصغيرة آخرَ القاعة. أَدَرْتَ الجهازَ، وانهمك الجمهور في المشاهدة.
- أليس بإمكاني أن أُحَدِّدَ مواعيدَ العرضِ بحيث لا أُدِير الجهاز إلا متى شئتُ؟ ألا يمكنني يومًا أن أنتقي الفيلم الذي أقوم بعرضه؟
لأول مرة منذ عملت هنا تتساءل.
- أَتُرَى أَحَدٌ من المشاهدين قد دار بخلده أصلًا - وهو منهمك في متابعة الفيلم - أنَّ شخصًا ما يجلس في غرفة صغيرة بالخلف، وأنَّ ذلك الشخص هو الذي يعرض لهم الفيلم؟
وتجمَّدَتْ على عينيك نظرةٌ غريبة...
الفيلم التافه مللت من تكراره، وضَحِكَاتهم البلهاء ضقتَ بها ذرعًا، أعلمُ ذلك جيدًا، لكنَّكَ اعتدتَ ذلك مُنذُ سنين. ما الذي جعلك اليومَ تمدُّ كفَّكَ - ذاتَها التي أدارَتْ الجهاز- أمامَ العدسة لتعترضَ مَسَارَ الضوء المُنطلقِ إلى الشاشة؟
لم تأبَهْ لصيحات الجمهور، ولا للمدير الغاضب الذي سيفتح عليك الباب الآن صارخًا في وجهك. ظللتَ هكذا طويلًا، تَضحَكُ مُنتَشِيًا وأنتَ ترى ظلَّ كفِّكَ يتحرَّك على الشاشة. الظلُّ يتحرَّكُ من تلقاء نفسه، وأنتَ لا تملك السيطرة عليه. استولى عليك شَغَفٌ بمتابعة الظلِّ المتحرِّك ومحاولة تحريك أصابِعك مُحاكيًا حركة ظلِّها على الشاشة، حتى صارت كفُّكَ كأنَّها ظِلٌّ لِظِلِّهَا، وصرتَ أنتَ بِكامِلِكَ ظِلًّا لِهَذَا الظِلِّ!