تمامات

 

ليلة باردة يملأها العواء، وتمامات الجنود، واصطكاك أسنان سعيد في برج المراقبة المطل على المقابر. يلملم نفسه كل حين ليصيح متممًا: "واحد تمام"، ثم يعود لوحشته وخيالاته.

بعد أيام من ذلك لم يُسمع من سعيد إلا قرع بيادته المكتوم على الطريق وهو يولي هاربًا. ركض كالمحموم حتى استكان ناعسًا على قارعة قرية أحس عندها أنه ابتعد بما يكفي، واستيقظ على يد تداعب رأسه، ووجه عجوز نحيل كمعظم العجزة، تبعه سعيد إلى حيث أعطاه جلبابًا متسخًا يملأه العرق، وحذاء لا يستر من حصى الطريق.

وقال العجوز للسائلين عن سعيد من المارين على بقالته: لم أعد أقدر على الحركة كما تعرف، وسعيد ولد غلبان يساعدني ويأخذ نصيبه ويرحل.

لم يدر سعيد لمَ أخفى العجوز سر مكوثه في المخزن، ولم يسأل. اعتاد الناس على سعيد وانزوائه. قضى العجوز ليلة ممطرة بجانب سعيد في المخزن، وقد أشعل اشتداد عود سعيد رغبة دفينة بنفس العجوز الأمرد. فتمدد بجانبه وهو يتحسس جسده مثلما فعل حين رآه أول مرة وهو يهمس: البرد بالخارج كالرصاص.

انتفض سعيد وهو يضرب العجوز ويولي هاربًا كهروبه الأول.. عاري القدمين، يرتجف، يخشى أن يكون قد أثقل على العجوز فقتله. امتد به المسير حتى وقف بباب مسجد صغير، وانتبه له شيخ المسجد فأدخله وأعطاه جلبابًا نظيفًا، وخرج يجلس في خلوته يتلو القرآن. "فتح الله لك يا شيخ"، قالها سعيد وهو يجلس بين يدي الشيخ، أتم الشيخ تلاوته، ثم سأله: من أنت؟

أنا سعيد.

وما الذي أتى بك إلى هنا؟

جئت هاربًا.

ممَّ؟

من كل شيء.

حوقل الشيخ وربّت على كتفه وطلب منه النوم. وما بين النوم واليقظة سمع سعيد الشيخ وهو ينشد قول الأحيمر السعدي:

عَوي الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى

 وَصَوَّتَ   إِنسانٌ   فَكِدتُ   أَطيرُ

فتذكر المعسكر والتمامات والعواء... ونام. وحين استيقظ قال: أنشدني يا شيخ مما كنت تنشد بالأمس، أو علمني.. أريد أن أتعلم شيئا ينفع.

فكرر الشيخ سؤاله:

من أنت؟ وما حكايتك؟

فحكى له سعيد عن أبيه الذي مات وتركه صغيرًا مع صنعة لا تنفع، وأم لا يقدر على إعالتها حتى توفاها الله هي الأخرى وأراحها من همّه.. وعن خوفه من الزواج حتى لا ينجب بؤساء يلعنونه مع الحياة.. وعن الجيش، وتحديقه في المقابر طوال الليل يحصي شواهد القبور وهو محاط بالتمامات والعواء. عن هروبه الأول وذلك العجوز الذي قابله. صارحه باكيًا بأنه لا يقدر أن يعود لتلك الحياة، وأنه يبحث عن حياة جديدة.

مرت سنون قضاها سعيد مع شيخه، حفظ خلالها بعضًا من كتاب الله، ومن الأحاديث. لم يعرف الناس له كنية وإنما أطلقوا عليه الشيخ سعيد محبةً فيه. لاصق شيخه حتى توفاه الله، ووقف سعيد في ظل النعش على كتفه كما وقف في ظل صاحبه لسنوات. تناوله على باب القبر وهو يردد: بسم الله.. وبالله.. وعلى سنة رسول الله.

قضى ليلته يدعو له ويرتل القرآن وهو يشعر بطيف شيخه، وأبيه، وأمه. حين حمل له هدوء الليل صوتاً ــــ تذكر مع نبرته المترددة ليلةً سُمع فيها دبيب هرولته على الطريق هاربا ـــــ يقول: "واحد تمام