قطَّةٌ تَمُوء في شَمَاتة

أقفُ عند بابِ المقهى، أجولُ بعينيَّ فأرى طاولةً خاليةً، أشرتُ إلى صديقي أنَّ هذا الموقع جيد؛ لبعده عن أعين المارَّة ونظراتهم المُخجِلة، وكذلك عن شجرة النَّبْق التي تُسقِط أوراقها متعمِّدَةً في أكواب الشاي. كانت جلستنا في مواجهة شابَّين قَدَّرتُ أعمارهما بثمانية عشر عامًا أو أقل قليلًا، أحدهما يضع ساقًا على ساقٍ يفتحُ عُلبة سجائر (ميريت)، ينتزع غلافها دون مُبالاة، والآخر يطلبُ شايًا بربريا بصوت فيه رعونة.
يُرحِّب بنا «أشرف وضعوه»، يمسح الطاولة بِهمَّة، يستقبلُني دائمًا بابتسامة ودودة، يرحب بصديقي، ويسألني السؤال المعهود: «ليك وحشة يا أستاذ... إنت فين من زمان؟». مودَّتُه وتِرحابه أعتزُّ بهما... أتذكَّر ذلك عند دفع الحساب.
أفتح لفافات سندوتشاتِ الفول والطعميَّة والبطاطس، الرائحةُ بالفعل لذيذةٌ والمُخلَّل رائع، وصوتُ «برمو روتانا زمان» عن أفلام الحارة المصريَّة يمتزجان برائحة الطعمية التي تَتَسلَّل إلى أنفي وتُعبِّئ صدري برائحة السعادة الصباحية، ينتزعها سريعًا صوتُ النادل بطلبه حلبة حليب على السريع، طلبَها شيخٌ ذو قامة محنية قليلًا وفي عينيه نظرةٌ عميقة أو ربما قُل نظرةُ لامبالاة.
- أمازال هناك من يطلبُ هذا المشروبَ الغريب حلبة وحليب؟
تدخل المقهى قطَّةٌ مُنهَكَة شَعثاء واهِنة، تسيرُ ببطء نحوي، تجلس أمامي، تموء في استعطاف، لكنِّي لا أعيرُها اهتمامًا، تقترب أكثر.. تتمسح قدمي، أُبعِدها بلينٍ فتلتصقُ بتوسُّل، أنهرُها، لكن بلا فائدة، فأقول لها في حِدَّةٍ بعد ضيقٍ وتبرُّمٍ: «بِس! امشي من هنا».
تنصاع القطة لسخطتي الإنسانية، لتستدير سريعًا في انكسارٍ وهزيمة، ترتكِن هناك على الحائط الرخامِيّ المُتَّسِخ، تجلس بمزاجِيَّةٍ تُنظِّف جسمها النحيل، تتمطى بحركاتٍ جمبازيَّة لتستكين نومًا على أرضيَّة المقهى!

***
فجأة أثناء التهام الفطور امْتَقَع لوني، وصار بلون ورقةٍ خريفيَّةٍ تتهادى في السقوط، سكِّينٌ من نار يمزِّق لساني، قلبي يكاد يتوقَّف، تسري في بدني رجفةٌ مُخيفة - هكذا أتصوَّر- حاولت إلجام هذا الإحساس لكني لم أُفلِح.
في لحظةٍ لم أعد أسمع جلجلة «الترام»، ولا صوتَ الفيلم الذي يُبَثُّ على «روتانا زمان»، الكلُّ يُحمْلِق في عجزي، يسترقون النظر، تعقِدُ الدهشة أعيُنَهم.
يناولني صديقي كوب ماءٍ، أردُّها إليه بإشارةٍ من كفي، عاجزًا عن أن يتجاوز صوتي حنجرتي، الشيخ يذكّرني بالشهادة فيقول: «اتشَّهد يابني!»
مازلت أعتصرُ طاولةَ المقهى، أقبضُ على طرفها كأنِّي أصارعُ قوةً خفيةً تريد أن تسلبني الحياة، لم أكن أعرف أنَّ للموت تجربةً وطعمًا، وأنَّ زهوق الروح ليس بالأمر الهين.
أخيرًا، ألقيتُ ما لم أمضغه في فمي، وضعتُ بطنَ كفِّي على جبهتي في هدوءٍ متمالِكًا نفسي، أتنفَّسُ الصعداء، ثم أفتح عيني التي تفيض بدموعٍ حبيسة، فتنسحِبُ الرغبة عن أيّ شهية، ليحتلَّ مكانها الذهول والتعاسة والتساؤل: «يا ترى أنا عملت إيه؟». 
أخرِجُ لساني لصديقي الذي أجابني دونما سؤالٍ منِّي: «إنت عضيت لسانك يا مفجوع!».
أسقِطُ كفِّي التي كادت تلتصُق بجبهتي، أسحبُ هواءً مُغايرًا لرائحة الطعمية، أجمع بقايا السندوتشات، لأُبَسبِس للقطَّةِ الصفراء الهزيلة، لكنَّها لا تستجيب، أتَّجه إليها... أضعُ بقايا الأكل أمامها، تتلاقى أعيُنُنا في أسفٍ وعتاب... أتطلَّع إليها بألم... تنهضُ في ثقةٍ، ترفع ذيلها عاليًا في تعفُّفٍ، تسير وَسَط المقهى في اتجاه الشارع لتموء في شماتة ■