الرجل والصخرة

فوق صخرة «البازلت» القابعة على رأس لسان اليابسة الممتد داخل البحر، جلس رجل شعره أبيض، نحتت ملامحه السنون، كما نحتت الأمواج ملامح تلك الصخرة، حتى بدتْ هرمًا مقلوبًا آيلًا للسقوط، لم يدرِ رجلُ الصخرة ما الذي يدفع قدميه المتهالكتين نحوها كلَّما آذنت الشمس بالرحيل، اعتاد أن يرتاد هذا المكان فِي مثل هذا الوقت من كل يوم ليتأمل لوحة الغروب ويقتنص لحظات مرور قوارب الصيد من أمام قرص الشمس، ويستمتع بتلك اللوحات الساحرة التي يعجز عن رسمها الإنسان.
يدرك الرجل في قرارة نفسه أن هناك موجة من بين ملايين الأمواج ستؤتي أكلها، وتسقط الصخرة في غيابة البحر، وأنه دون شكّ سيُصبِح يومًا ما فريسةً لأسماك القرش التي تتقاطع زعانفها أمام عينيه ذهابًا وإيابًا في رتابةٍ لا تنقطع، ورغم ذلك فكم هو جميل الموت بالنسبة له على هذه الحال من التأمل، وكم تمنى في هذه اللحظات، الخروج من هذا الجسد كطائر يحلق إلى الأفق وينتهي مع اللانهاية للبحر.
وبينما يستمتع الرجل بالغروب واقتراب الشمس من التماهي في الأفق، إذا بصوت مرتفع يصدر من قارب صغير يعبر من أمامه محذرًا: 
- ستسقط الصخرة.
أرسل العجوز بصره باتجاه الصوت، ليرى شابًا ينظر إليه وقد ترك توجيه القارب، ووضع كلتا يديه على طرفي فمه مكررًا نداءات التحذير:
- ستسقط الصخرة.
أدار الرجل رأسه يمينًا ويسارًا وأمعن النظر إلى البحر من تحته ليدرك سبب صراخ الشاب له فلم يلحظ شيئًا، وأثناء ذلك إذا به يرى أسماك القرش تهرع وتترك مكانها دفعة واحدة، وتشق البحر بزعانفها باتجاه القارب، رفع الرجل نظره فإذا بالقارب قد اصطدم بحيد مرجاني، وانقلب رأسًا على عقب، ياللكارثة!
ومع آخر خيوط الشمس الذهبية قبل أن تغيب وتختفي، تأتي أمواج ذات ألوان قرمزية، اختلطت فيها زرقة البحر وأشعة الشمس ودماء الإنسان، لوحة أخرى جميلة رغم دمويتها، يرسمها البحر بأحزاننا ودمائنا، في تناقضٍ مخيف.
تغيب الشمس والعجوز في حالة من الذهول والتفكير في ذلك الشاب الذي خسر حياته بينما هو يحذره من السقوط والموت، ثم يتساءل «هل عاقب الموت الشاب لأنه تدخل لينقذني منه، هل هو ذنبي أم ذنب الصخرة أم الأمواج أم هو ذنب الغروب؟».
هذا هو البحر يفعل كل ما يريد بكل قسوة، ويترك لنا أسئلة ليست لها إجابات، ويعطينا إجابات ليست لها أسئلة، وإذا أردت معرفة الحقيقة فلابد أن تدفع الثمن.
ينهض الرجل وعلامات الحزن على وجهه، وقبل أن يستدير يوجه كلامه لأسماك القرش، ويخبرها بأن الفرصة لا تزال قائمة وأنه ربما كان وجبة من وجباتها القادمة، عليها فقط الصبر والانتظار، وقبل أن يترك مكانه ينحني فوق الصخرة هامسًا:
«كوني على العهد، تشبثي بمكانك، لا تسقطي بدوني» ثم يجاهد قدميه المتثاقلتين عائدًا أدراجه قاصدًا بيته وعائلته، إلى أن يولد يوم جديد، يعقبه غروب جديد يستمتع به.
لم تكن موجة «اليانصيب» الرابحة بعيدة عن ذلك اليوم، فمع غروب اليوم التالي أقبلت تلك الموجة المُنتظرة بعد طول غياب، لتحقق للرجل والصخرة ما تعاهدا عليه، ولم تغب شمس ذلك اليوم حتى غابت شمسهما.