ظلال خائنة

مجهول الوجهة، سلم قدميه للقدر، خميص الأوعية والآمال...  بلا مأوى ولا ملاذ، يجوب الحيرة شوارع بلا عنوان، يتيم الهوية تلفظه الأماكن إلى غيابات جب خارج الدنيا، سجين بؤس بتهمة التشرد. 
استوقفته بين الطرقات حاوية قمامة، فلملم منها فتات مأدبة النوارس وأشياء بلا قيمة عافها الفراش كما عافته الحياة، ثم واصل مسيره مثقلاً بهموم بلا خارطة، وشعر شعث كثيف الحكايات، تتدلى خصلاته الملتوية على عيون منطفئة تفوح منها روائح الخيبات، وندوب عارية عبثت بتقاسيم وجهه الشاحب متواطئة مع بنادق الوصم. يجر جسدًا خربًا يكسو أسمالًا قضم عرضها الخذلان بساحات ملاجئه، مخلفًا جثت الخطيئة على هوامش ألف ليلة وليلة لم يتنفس فجرها بعد، وذكريات مظلمة من تاريخ عبوس قمطرير!
استيقظت المدينة، فاستيقظت معها هواجسه التي تولد مع النور، ليتضاءل ظله متواريًا عن الخلق، يتمنى لو يتخذ نفقًا تحت الأرض يحمله إلى عوالم أخرى، أو سلمًا إلى السماء يأخذه إلى المجرات الغابرة مدثرًا بالغيوم.
صعد أول حافلة منحته شرف الاعتلاء، غير آبه لنظرات تعود منها الاهتمام، كممثل مشهور اعتلى خشبة مزيفة، تتسلمه كل أضواء الفضول، غازية ستائر الحرمات. 
ألقى عليهم نظرة منحنية مهمهمًا بتحية مبحوحة معتلة المنطق: «صباح الخير». ليسود صمت بهيم قبل أن يصله الرد وشوشات يشي صداها بحروف آنفة منه ومن تفاصيله المستنفَرة... كأنها تنهره تطيرًا: «لا خير في صباح يبدأ بمثلك بسملة، ترددها غربان الشؤم نذيرًا». 
دعته شظاياه المنهكة للجلوس، علّها تظفر بقبس من راحة لم تذق لها طعمًا أبدا، فجال بصره من جديد في تلك الوجوه المشدوهة، عساه يقرأ في إحداها دعوة حانية، أو لامبالاة راقية، أو انشغالات لاهية، تنعم عليه بتأشيرة قعود. وككل مرة، ارتد إليه البصر خاسئًا وهو حسير!
منكسرًا، نأى به الجانب عن كراس كحجر أمه الذي لم يخلق ليحمله، وحجر أبيه الذي سقط عنه سهوًا، مخبرًا جمهوره أنه مسرحية بلا مشاهد، ومشهد مطموس الألوان، غير مستباح النظر، قد أعياه تصفيق صفارات الإنذار. 
من كل ذاك الحضور الباهت لم تستوعبه إلا فتاة رقيقة الملامح، رمقته بلحظ خجول يخفي شفقته خلف ابتسامة جميلة احتوته كما لم يحتوه أبدًا حضن، لتجعله مسلوب الإرادة يبتسم، كما لم يفعل عمرًا، ويشعر بزهو الانتماء إلى بني البشر. 
وحدها تلك الابتسامة منحته وطنًا وهوية ومأوى آمنًا مريحًا وبطنة حد الاكتفاء! منتشيًا بذاك الشعور الجديد على دواخل لم تذق مثله أبدًا. دنا منها مستندًا إلى ظهر كرسيها، كطفل يتمسك بجلباب أمه خشية التوهان في زحام المآسي.
ابتسمت له مجددًا، لكنها لم تستطع إخفاء رعبها خلف شفة وجلة اغتالته كما أحيته، ويد مرتعشة أخرجت من حقيبتها السوداء قطعة نقدية بلون الرصاص، مدتها إليه طاعنة كبرياءه وأمانه في الآن نفسه، كأنها خنجر «بروتوس»! 
ذكرته من لا يكون. وجردته من إحساس لم يكد التحاف دفئه حتى هجره مجددًا ليحتله الخريف العتيد عاصفًا ببذرة كرامة طالما أخلف المطر وعدها. وبنظرة موؤودة الفرح حملها كل عتبه على زيف الفصول، رفض عطاءها وهو يجاهد دمعة فرّ بها إلى أول غابة وقفت عندها الحافلة. آيبًا إلى قبر حفره بين أذرع أشجار البلوط وحنايا الزيتون والزيزفون. كم لاذ به هربًا من موت... في انتظار موت... فوحدها الأشجار ظلّها لا يخون! ■