قطار الساعة الثامنة

أخذت أسير ببطء على رصيف المحطة متطلعًا إلى كل وجوه النساء اللاتي نزلن من القطار حيث وصل لتوه، وغادر جميع الركاب المحطة وأطلق القطار صافرته معلنًا بدء تحركه، وحين تأكدت من عدم وجودها بين المسافرين انتابني قلق شديد عليها وبدأت أفكر، لقد اتصلت بي وأخبرتني أنها سوف تستقل القطار الذي سيصل في السابعة مساءً، وطلبت منى أن أكون في انتظارها على رصيف المحطة، وصل القطار ولم تكن من بين الركاب، أخذت أسأل نفسي: ماذا حدث؟! هل حدث مكروه منعها من اللحاق بالقطار فقررت أن تستقل القطار التالي؟!
توجهت إلى مكتب ناظر المحطة وسألت عن موعد القطار القادم فعلمت أنه سيصل بعد ساعة، أي في الثامنة مساءً، قررت أن أنتظر القطار القادم لكن الطقس كان باردًا فذهبت إلى استراحة المحطة لتناول قدح من القهوة، والتحصن من برودة الجو، جلست على طاولة بالقرب من النافذة المطلة على رصيف المحطة... اقترب مني الساقي وقال لي: ماذا أقدم لك يا سيدي؟ فطلبت قدحًا من القهوة مع الكثير من السكر... لكن ما لفت انتباهي أن الساقي كان مبتور اليد اليمنى... كان بذارعٍ واحدة... كانت جميع الطاولات من حولي خالية... طاولة واحدة فقط هي التي يجلس عليها شخص واحد متأنقًا... يرتدي حلة فاخرة... رابطة عنق حريرية... ومعطفًا أسود اللون من الصوف الفاخر... كان له شعر أبيض على الجانبين... وشارب أسود رفيع... كان يبدو في العقد الخامس من العمر، لكنه كان ينظر إليّ وهو يبتسم... جاء الساقي بالقهوة ووضعها أمامي... أخذت أرتشف منها ببطء، وأنا أنظر عبر زجاج النافذة على رصيف المحطة الخالي من الناس... لكن كلما نظرت إلى الرجل ذي الحلة الفاخرة الذي يجلس وحده على الطاولة رأيته ينظر إليّ وهو يبتسم فأعود مرة أخرى أرتشف القهوة، وأتابع النظر خلال النافدة، وأفكر في خطيبتي راجيًا أن تكون بخير، وأن تكون على متن قطار الساعة الثامنة.
وفجأة دخل شاب أسمر البشرة ضخم البنية يحمل فى يده حقيبة سفر، وجلس على إحدى الطاولات الخالية... اتجه إليه الساقي وسأله عما يحب أن يشرب.
كان هناك صمت رهيب يعم المكان... نظرت حولي وأخذت أقول لنفسي: «ليلة باردة... سماء بدون قمر... ساقي بذراع واحدة ... رجل مريب يجلس على الطاولة بمفرده ينظر إليّ ويبتسم كالمعتوه... شاب ضخم يحمل حقيبة في يده حتى بعد أن جلس، وضعها أمامه على الطاولة وهو ممسك بها كأن بها كنزًا ثمينًا يخاف أن يُسرق منه»... إنه مشهد أقرب ما يكون لمشهد من فيلم رعب... بينما أنا جالس لا أعرف ماذا حدث لخطيبتي جعلها تتخلف عن اللحاق بالقطار... يا له من وقت عصيب... دعوت الله أن تكون بخير.
فجأة قام الشاب الضخم بفتح حقيبة السفر التي يمسكها بيديه وأخذ يخرج منها شيئًا ببطء وأنا أراقبه وقلبي يرتفع مع حركة يده وهي خارجة من الحقيبة... أفكر في ماذا سيُخرج من هذه الحقيبة الغامضة... لقد أخرج منها رواية «ذهب مع الريح» ثم أخذ يقرأها باندماج شديد... ضحكت وتعجبت بيني وبين نفسى قائلًا لها: شاب مظهره أقرب ما يكون إلى مصارعٍ أو مجرمٍ عتيدٍ يقرأ رواية تحكي صفحاتها عن الحب والعاطفة والمشاعر الجياشة. 
بعد قليل مدّ الرجل المتأنق يديه أسفل الطاولة وجذب آلة عود وأخذ يعزف عليها بمهارة كبيرة... كانت ألحانه عذبة جميلة بعثت في نفسي شعورًا بالارتياح.
أثنى الشاب الضخم على ألحان الرجل المتأنق...فشكره الأخير ودعاه لمشاركته الطاولة ثم دار حوار بين الساقي والرجل المتأنق عازف العود عرفت منه أن الرجلين يعرفان بعضهما بعضًا تمام المعرفة... أشار إليّ الرجل المتأنق ودعاني إلى مشاركتهما الطاولة، ترددت قليلًا لكني رأيت أن جلوسي معهما قد يخفف من حدة قلقي على خطيبتي فأخذت قهوتي وجلست معهما على الطاولة... جلسنا جميعًا على طاولة واحدة... عرفنا الشاب الضخم بنفسه بأنه مدرس فلسفة وشاعر هاوٍ، وأنه يسافر في عطلة نهاية كل أسبوع إلى قريته حيث يعتبر الطبيعة الساحرة وهدوء الريف وهواءه النقي مصدر إلهام له لكتابة أشعاره... أما الرجل المتأنق فقال إنه عازف عود بفرقة الموسيقى العربية وأنه ينتظر قدوم زوجته وأطفاله على متن قطار الساعة الثامنة.
قلت لهما: أنا أيضًا في الواقع أنتظر خطيبتي القادمة على متن قطار الساعة الثامنة. ضحك الرجل المتأنق قائلًا: إذًا نحن جميعًا ننتظر القطار نفسه... ثم استدار ناحية الساقي وطلب منه أن يحضر له كوبًا من الشاي مع النعناع الأخضر... ثم استدار ناحيتنا وقال: كم هو عظيم هذا الساقي... فقد ذراعه في الحرب وحاز وسام الشجاعة إلا أنه يحتفظ به في مكانٍ آمن لا يريد أن يظهره أو يتباهى به أمام الناس، فهو يؤمن تمامًا بأنه لم يفعل سوى الواجب عليه تجاه وطنه، وأن من فقدوا حياتهم في الحرب هم أكثر منه شجاعة... من يتصور أن هذا الساقي المتواضع هو بطل من أبطال هذا الوطن؟!
تأملت كلام الرجل المتأنق، وقلت لنفسي: منذ قليل كنت مرتابًا في كل من يجلس حولي ثم تبين لي النقيض.. الشاب الضخم شاعر وفيلسوف... الرجل المتأنق فنان عازف عود ورب أسرة... الساقي ذو الذراع الواحدة بطل من أبطال الحرب وحائز على وسام الشجاعة تقديرًا لبطولته... هل كنت سطحيًا لهذه الدرجة فأحكم على الناس من مظهرهم؟! فكم خدعتنا هذه الحياة بمظاهرها!
فجأة! سمعنا صوت صافرة القطار معلنًا وصوله فقمنا من أماكننا مصافحين بعضنا البعض، ونحن نشكر الظروف السعيدة التي جمعت بيننا خلال الساعة الماضية.
انطلقت إلى رصيف المحطة وأنا أطالع وجوه المسافرين، وفجأة رأيت خطيبتي أمامي فاتجهت نحوها وحمدت الله على سلامتها... قالت لي إن المؤتمر الذي كانت تشارك فيه قد امتد لثلاث ساعات مما تسبب في عدم لحاقها بقطار السابعة... لذلك استقلت قطار الساعة الثامنة.
أطلق القطار صافرته معلنًا رحيله هذه المرة فوضعت خطيبتي يديها على أذنيها وهي تضحك وتأبطت ذراعي بينما نحن سائرون في طريقنا للخروج من المحطة.