جزر

تبدأ علاقتي مع الجزر منذ أيام حكي والدتي قصة أرنب الجزر الذي كان يعترض على الطعام، وفي نهاية القصة يرضخ لأكل الخس والجزر، ربما كانت والدتي تريد أن تجعلني غير متمرد، لكنها فشلت في ذلك، وحينما أعترض على أكل الجزر تقول لي إنه يقوي النظر وتغني لي تلك الأغنية الطفولية التي ما زلت أبتسم حين أسمعها، وربما لأن الأرنب في القصة كان هو البطل وكان متمردًا، فنشأت ذلك المتمرد الذي يعاند ويخوض التجارب حتى ولو كانت خطأ، ويتلذذ بالنتائج أيًا كانت، وعلى هذا نشأت يساريًا رغم أزهرية والدي، وذقت من هذا مر الاعتقال في سن صغيرة، عملت كناقد سينمائي لفترة ليست بالقصيرة قبل أن يتم تسكيني ككثير من أهل اليسار في مركز ثقافي تابع لوزارة الثقافة، وأنا الآن أسير بحلقتي الخامسة من العمر.
لم أؤمن في حياتي بفكرة التلباثي أو التخاطر عن بعد، حتى كنت أضحك حينما كنت أدرس عبقرية العقاد وما قيل في بعض الصحابة من فكرة التراسل الفكري، كانت يساريتي تنأى بي عن الخوض في الغيبيات، رغم أن يساريتي لم تخرجني من إيماني، لكن تفاصيل مثل أن يكون الشخص ذا خطوة أو ذا حظوة أو كرامة بعيدة عن تركيبة عقلي.
وكناقد سينمائي لم تطب لي أفلام إسماعيل يس، بالذات سلسلة الأفلام التي تبدو أنها صنعت في أحد أماكن التوجيه المعنوي حيث يظهر إسماعيل يس في كل مرة بطريقته الكوميدية في كل المؤسسات العسكرية والشرطية، وأحدثكم عن إسماعيل يس حيث تلك محطتي الأخرى مع الجزر في فيلم المليونير، وكنت كثيرًا ما أستخدم كلمة جزر للتعبير أنني قلت جزر فيظهر لي الشخص.
 وحينما قابلت نور كانت هي الجزر الذي أضاء حياتي، منذ اليوم الأول في ورشة السيناريو التي أشرف عليها تألقت في عيني، وليلًا تفكرت فيها ووجدتها تتصل بي تناقش معي طرحي في ورشة السيناريو حيث قصة الحب التي كنت طرحت فكرتها ليعمل الفريق عليها، ولم أعرف من أين حصلت على نمرة تليفوني سوى أنني تفكرت فيها فوجدتها تطلبني واستمر الأمر هكذا، عقلي يفكر فيها فأجدها تظهر من التليفون في صوت رسالة صوتية أو رسالة مكتوبة على أي من صفحات التواصل أو اتصال.
كنت أحاول أن أشرح لنفسي عن فكرة التراسل التي بيننا بطريقة علمية وكأن قلبي يدق باسمها فيرسل إلى عقلي الأوامر التي ترسل مجال الإشارة، وهي لديها قدرة استقبال قوية فتتلقى الإشارة هي وتعيد تحويلها إلى حقيقة، وظللنا هكذا حتى أصبحنا أشباحًا داخل قصة السيناريو نتعايش مع الأبطال أو نصنع مثل ما يصنعون في تقاربهم وتباعدهم.
أصبحنا نتندر معًا، حينما تكلمني أقول لها: هل قلت جزر؟ أو هي تحدثني في التليفون وتقول لي: خدمات أرنب الجزر ترحب بك!
الحلقة الخامسة من العمر تمشي بي بعيدًا عن العبث لكني مأخوذ لا أعرف هل بشبابها أم بتشابهنا فى أشياء كثيرة أم في اختلافاتنا، في معاركنا بورشة السيناريو حينما أحاول أن أوجه الورشة كجزء من عملي واعتراضها على مسار الشخصيات وفي أوقات كثيرة تحيزها إلى الشخصيات، دخولنا في معركة كبرى بسبب أنها قالت إن بطل الرواية لن يفعل هذا، هي تتعامل مع الأبطال كأطهار وأنا أريدهم شخصيات طبيعية من لحم ودم، أمسكت بنفسي وأنا أستشعر الغيرة من إيمانها بالبطل رغم أن الأمر لا يزيد عن شخصيات اخترعتها وأحاول توجيههم وفقًا لمعايير الكتابة ليس إلا، لكن الغيرة الورقية تحولت إلى معركة كبرى أمام الآخرين.
لا أعرف لم بدت لي جزرة شقية أو حتى جزرة قوية عصية على أن ألوكها بأسناني التي بدأت تئن من عمري، هي لم تتخط الأربعين وأنا أقترب من نهاية الحلقة الخامسة من عمري ولم أفكر عمري في الارتباط، ربما كنت أنانيًا أو أفضل أن أعيش دون مسؤوليات أتحملها، أكتفي بأسرتي الكبرى بعيدًا عن أن تكون لي حياة، أشاهد فقط حياة الآخرين وأعيش بين كتبي وكتاباتي البسيطة والمعارض الفنية والمركز الثقافي.
أتذكر كلمات والدتي عن تقوية الجزر للنظر فأستشعر جزرها وسع رؤيتي على حياة لم أعشها من قبل.
انتبهت إلى أن جزرها يخرجنا من الحوار المشترك حول السيناريو إلى آفاق كثيرة، لم نتقابل إلا عدة مرات على انفراد، كانت جولاتنا دومًا في القاهرة القديمة نجلس على أحد المقاهي فيها، أستمتع بتأمل تألقها إلى جواري، أخشى أنني لا أتحمل جزرها وأخشى من البوح، وهي تبدو سعيدة معي، نتكلم لساعات دون ملل، حتى بعد تلك اللقاءات كنا نكمل حواراتنا تليفونيًا.
أصبح نداء الجزر لا يتوقف، هي تناكفني بقولها أعطني هذا الجزر وأنا أقول لها ابتعدي وأستشعر بنفسي «عمو الشرير» الذي أصبح يفكر في أنوثتها بجوار عقلها ويريد أن يقطف زهرة شبابها.
مع الجزر بدا التلباثي شيئًا أعرفه، مع الجزر بدأت أغير تفكيري في حياة مستذئب، ترى إلى أي بُعد سوف يذهب بنا الجزر؟!