أفكارٌ مذعورة

لم تكن تتصور يومًا أن تعيش من دونه!
قلب الأم الذي يستقرُّ وادعًا بين أضلعها، تربتُ عليه بطمأنينةٍ نظراتُها إلى ابنها الوحيد صحيحًا سالمًا، ويضطرب هلعًا إذا ما مسّه مكروه أو كاد، كيف به وبها وقد همدت خفقاته ونضبت عروقه وجف معينه!
تستعيد ذكراه معها، بل ذكراها هي معه...
فلم تنبض الحياة في عروقها إلا بعدما سكن أحشاءها! كان قلبُها واحدًا ساكنًا بين جنبيها، فأصبح مفرقًا يمشي على الأرض وترتد خطواته إلى وجدانها!  يبتسم فتشرق الدنيا ولو كانت في أحلك ظلام، ويعبس فيَغشى الظلام ولو كانت الشمس معلقةً في كبد السماء! تنامُ بعد أن تنوِّمهُ وتستيقظُ لتوقظَهُ، تُعلّق به حياتَها وآمالَها، فهو مستقبلُها، والمرء أبدًا معلَّقٌ بمستقبله، يرجو فيه فكاكًا من أسر واقعهِ، ورحابةً من ضيق حاله ومعيشتهِ!
لكنّ ذلك كلّه قد ولّى عنها وذهب، كسرابٍ
لا تلبثُ أن تُمسكه فرحًا مسرورًا حتى يتسرّب من بين يديك وهرب! فقد تيتّمت! وما لها ولمن فقد ولده ألا يتيتّموا؟! تعرف من فقد عمله، داره أو ماله، لكنها فقدت قلبها... فهل يعيش من فقد قلبه؟
بدأ كل شيء بعد انتقاله إلى تلك المدرسة الثانوية، كان آية في الهدوء والاحترام، قبل أن يتعرف على مجموعة الصبية الذين يسميهم أصدقاءه! أصدقاء؟ وهل يفقه هؤلاء الفتيان عن الصداقة بل والحياة شيئًا؟!
تحوَّل من طفل وادع مطيع إلى صبيٍّ متمرد رقيع، يهمل واجباته ويهتم برفقائه، يكثر الخروج معهم، ويقضي وقته منشغلًا بهاتفه، أصبح غارقًا في هذا العالم القاتم، الذي يهواه كل الفتية وتخشاه كل الأمهات، وكيف لا تخشى وهي ترى ما بذلته لعمرٍ طويل يضيع سدى في وقت قليل، حتى أصبحت حائرةً تائهةً عاجزةً عن عمل شيء، ولا تستطيع البقاء متفرجةً وقلبها يتقلبُ على جمر الخوف والقلق! 
لا تنسى ذلك اليوم، عندما صدمته وهو طفلٌ صغيرٌ سيارة طائشة، فانخلع قلبها رغم أنه قد نجا، وما زال قلبُها يصيبه الذعر من حينها كلما تركته وحيدا، فكيف تطمئن نفسها وقلبها يعبث خارجها؟! أما اليوم... وتنخرط في بكاء مرير. 
جاءها ليخبرها بكل جرأةٍ أنه راغب في الذهاب في رحلة مدرسية لتسلق الجبل الكبير، ومع من؟ فرقة الأوغاد... أي جنون هذا؟!
جبالٌ شاهقة، وطرق وعرة، وحوش كاسرة، وأيدٍ طرية ناعمة... لكنه مصرٌّ عنيدٌ، وتعلم أنه سينفذ ما يريد! أخذ يجهز حاجياته وقلبها يتقطع كمدًا، لينطلقَ في الصباح مع رفقته، وتمكثَ هي مع همّها ولوعتها. 
يومٌ واحدٌ كأنه دهورٌ، تعلم يقينًا ما سيحدث كأنها تراه أمامها، ابنها جريء شجاع - أو هكذا كان، يتسلقُ المرتفعات مسرعًا سابقًا أقرانه، يريد أن يثبت أنه الأفضل، تتفلّتُ يدُه من قبضتها،
ولا أحد حولَه... مشهدٌ مروّعٌ، أمطارٌ غزيرةٌ، هزيم الرعد يصمُّ الآذان، وضوء البرق يعمي الأبصار، ارتفاعٌ شاهقٌ، وهوةٌ سحيقةٌ، وسقوطٌ محتّم!
يقشعر جلدها ويرتجف جسدها، تهز رأسها في قوة وتنهار بالبكاء... لا تقوى على مجرد تخيل ذلك فضلًا عن معايشته... أي جرمٍ هذا الذي اقترفته؟!
«تبًا! أنا السبب... ما كان ينبغي لي أن أسمح له بالذهاب». تفكر بلوعةٍ وحسرةٍ لم يغنيا عنها شيئًا!
صوت المزلاج يقطع أفكارها... الباب يُفتح... ترافقه جلبةٌ وضجةٌ، ترى هل...؟ هرعت نحو الباب مسرعةً، رأته... حقًا إنه هو! مبتلًا مغبرًّا متسخًا، لكنه هو... اندفعت إليه ودموعها تغالب ضحكاتها، تتحسّسُ الصبيَّ كأنها تتحقق من يقظتها، صاح في دهشةٍ وهو يتملص من أحضانها: «أمّي أنا جائع، ألم يجهز الطعام بعد؟!» ■