أحلام الخريف

كعادتها كل صباح أمسكت بيد حفيدها
ذي الأعوام الأربعة، متخذة طريقها المعتاد إلى دار الحضانة التي تقع نهاية الشارع.
لا تتخلى عن يده أبدًا مهما كانت الأسباب، هو الحلم الذي ظلت تتمناه من الله سنوات طوالًا، وتدعو الله أن يرزق ولدها به.
يشير الصغير إلى محل الحلوى، إشارات تفهمها، فتذهب به إلى عم عبده تمنحه ما يتمنى.
تصعد به درجات السلم المنخفضة، تسلمه إلى مشرفة الدار، ثم تجلس بالخارج تنتظره، لا يطاوعها قلبها في مغادرته تلك الساعات القليلة، تراها دهرًا يصعب مرورها دونه، حدثتها زوجة ابنها أن بإمكانها تركه حتى موعد مغادرته ثم العودة لأخذه في الظهيرة، لكنها ترفض الأمر وتفضل انتظاره على عتبات السلم بالخارج.
أدمنت سماع حروف الهجاء، وقراءة الأعداد، تعلمت من جديد نطق فاتحة الكتاب.
تمنت كثيرًا في طفولتها أن تلتحق بالمدرسة، ذلك العالم السحري من الأوراق والأقلام والكتب والكراسات، كانت ترى أشقاءها الذكور يدرسون ويتعلمون وهي تقوم بخدمتهم فقط ، فليس للإناث حق التعليم كما سمعت والدها مرارًا يخبر والدتها حين طلبت منه إلحاقها بالمدرسة، ومر العمر وبقي حلمها في التعليم نارًا تضيء وتنطفئ.
ألحقت أولادها كلهم بالتعليم حتى ابنتها الوحيدة، ظلت تراقبهم عن بعد وهم يتقدمون في المراحل المختلفة، حتى التحـــق اثنـــان منهم بالتعليم الجامعي، واثنان بالتعليم المتوسط.
وحين ظنت أن تعليم أبنائها سيشفع لها جهلها، أتى أصغر أحفادها ليوقد الشرر بداخلها من جديد، يعتب عليها الجميع جلوسها بالخارج هكذا أمام المارة طوال ساعات العمل بالحضانة، وكثيرًا ما طلب منها ابنها أن تنتظر خروجه في المنزل والعودة لأخذه في موعد خروجه، لكنه لا يعلم أن الزمن قد منحها أخيرًا حق التعليم بعد مرور كل هذا العمر، حتى لو كانت خارج أبوابه وخلف جدرانه، وأن ذاكرتها التي كانت قد بدأت في الخفوت مع تقدم العمر تعود إليها ليلًا حين تجلس مع حفيدها تطلب منه أن يذاكر دروسه أمامها في محاولة لتثبيت معلومات الصباح.
يمر الوقت وهي تزداد تعلقًا بالحضانة والسبورة والأقلام والكراسات، أحيانًا تطلب من المشرفة الدخول إلى الفصل للاطمئنان على حفيدها حتى موعد بدء الدراسة، وهناك تدهش من سِحر ما ترى.
ليتهم يتركونها في تلك البقعة، يفهمون رغبتها الملحة في تحقيق أمنيتها قبل انقضاء عمرها.
على عجلٍ تطلب منها المشرفة الخروج قبل مجيء المديرة وتعنيفها، تطاوعها بغضاضة لترسم تجاعيدَ جديدة على بشرتها المتهدلة.
تكتفي بالاستماع من خلف الجدران، وفقط تبتسم للزمن الذي منحها أمنيتها على خجل وتنادي على العمر المتسرب للوقوف قليلًا حتى تتشبع من هذا الإدمان.
باتت رغبتها تشتعل معها كل صباح وتزيد مع توهج الشمس، يزكيها حملها حقيبة حفيدها كأنها امتلكت حقيبة مدرسية أخيرًا، وحين تسلمه إلى المشرفة وتعطيه حقيبته تشعر بروحها تنتزع منها.
في المساء حدثت ابنها فيما ظلت تخفيه طويلًا، طلبت منه إلحاقها بدار الحضانة، اندهش بقوة، عارض بشدة، ولم تفلح زوجة الابن بإقناعها في الصباح بمصاحبة الصغير للحضانة.
استسلمت للنوم، للعتمة التي هاجمت خلايا عقلها، والطنين المتسرب من شقوق الوجع في روحها، وحين عاد إليها الصغير يتلو عليها الأناشيد التي حفظها كانت هي تسبقه لعالمٍ تجد فيه كل 
ما تتمنى.