لعبة البازل!

في الليل البهيم، خرج والدي من قبره متألقًا كنجمة. لبس معطفًا وربطة عنق. على جانبيه، أحاطه رجال بيض كأنهم ملائكة. كان الفراق لا يزال طازجًا، وكنا مشبعين لا نزال بالحزن. دخل الغرفة وعانقنا واحدًا بعد الآخر عناقًا حارًا يلتصق فيه الجلد بالجلد. انبعثت الأفراح في قلوبنا من جديد، لكنها أفراح خالصة هذه المرة، ليس فيها شائبة من تردد أَوْ توجّس! يا الله، أَيْنَ المرض وشظف العيش؟ أَيْنَ الخوْف الذي كان جاثمًا على الصدور؟! أطل من عيوننا تساؤل حدسه المبعوث، فنظر إلينا بتفهّم، وقال:
- «نعم، أعلم أنني كنت قاسيًا، لم يكن الأمر بيدي يا أبنائي، لقد كنت مقهورًا، لا أملك أن أغالب القدر، لكني الآن شفيت، بعد الموت شفيت!».
وبكبرياء مقدس، التفت إلى المشيّعين حوله، وأشار إلينا بإعجاب: 
- هؤلاء أولادي الثلاثة: المهندس والميكانيكي والطبيبة، وهذه أمهم، القديسة! إِنِّي أفخر بهم جميعًا!
كانت أمي عروسًا كما لم تكن من قبل، رحلت التجاعيد عن وجهها فجأة، وأخذت تنظر إلى زوجها بحياء عروس ليلة دخلتها. تقدم منها والدي، وبدل أن يعنّفها أَوْ يلقي إليها بأمر، ربت على كتفها الأيمن بحنان عاشق، ثم قبّل رأسها:
- شكرًا لك أيتها الغالية، لولا صبرك وشجاعتك لانتفش العش، لولاك لضاع كل شيء!
حالة من الحلم الناعم، يتجاوز كل إفراط في التفاؤل، يمكن أن نتصوره. على أنه لم يكن حلمًا من صور، وإنما حلم حقيقي، من لحم ودم! وتلك نعمة أخرى، فاقت كل ما في جعبتنا من تطلعات! آه، ما أجمل الموتى حين ينهضون من قبورهم، خاصة أولئك الذين لم تُتِحْ لهم الحياة فرصة أن يقولوا كل شيء قبل رحيلهم. أولئك الذين لم يكشفوا عن تلك المناطق الغامضة والملغزة من شخصياتهم، على الأقل أمام أقاربهم! كم من الموتى تشيعهم إلى قبورهم، الأسئلة والحيرة، أكثر مما يشيعهم البشر!
من كمّ معطفه، أخرج والدي بيمينه كتابًا مذهبًا، تحيطه هالة من نور، قال:
- خذوا!
- ما هذا؟
- كتاب!
- ماذا نفعل به؟ 
- اقرأوا فيه، لقد دونت كل مشاعري نحوكم، تلك التي لم أبُح بها يومًا لكم، وفيه أيضًا بعض التفاصيل التي لا تفهم معزولة، ويجب ربطها بتفاصيل أخرى حتى تفهم، إنه كتاب يشبه لعبة البازل!
كان والدي يتحدث كفيلسوف ناضج وكبير! 
- وكيف كتبته يا أبانا؟ سألناه جميعًا بصوت واحد.
- في قبري أجد متسعًا من الوقت لأكتب وأتأمل!
- وماذا كتبت فيه؟
- أشياء كثيرة ستساعدكم، فأهل القبور لديهم ما يكفي من التجربة والحكمة لينظروا إلى الأشياء بغير المنظار الذي تنظرون به أنتم الأحياء! الموتى لديهم الوقت الكافي للتأمل، أما الأحياء فدومًا مستعجلون!
كنّا نستمع مشدوهين إلى والدنا غير مصدقين!
- لكن هناك شيئًا واحدًا يفيض من كل جنبات هذا السِّفر، أضاف والدي، قاطعًا حيرتنا...
- ما هو يا أبانا؟
- ما هو يا زوجي العزيز؟
- تطلعت عيوننا إليه بشغف وترقب:
- أحبكم جميعًا!
أشرق وجه أمي بهذا الاعتراف، وتلألأ في عينيها امتنان غامر. أما نحن الثلاثة فقد شعرنا بأننا استعدنا عافيتنا النفسية، ووجدنا مفتاحًا لأسئلة كثيرة، أحاطت بوالدنا قبل رحيله، وكانت تؤرقنا جميعًا. أسئلة، ربما فك شفرتها هذا الكتاب العجيب، الذي كتبه والدنا في قبره، ثم طلب منا أن نقرأه على مهل، ومن دون أن نستعجل، تمامًا كما نفعل مع لعبة البازل. 
- أحبكم جميعًا!
أعاد هذا الاعتراف الخطير على مسامعنا، الاعتراف الذي لم ينبس به قط قبل هذه الليلة الفاصلة. إنه يحبنا، وتلك هي كلمة السر التي تختزن كل العوالم الغامضة، تلك التي لم نفهمها في تصرفات والدنا الذي مات، والحي الآن أكثر من أي وقت مضى!  إنه يحبنا، وكان ذلك يكفي حتى ولو لم نقرأ الكتاب بعد، حتى ولو لم نطلع على تفاصيله! يا لسحر تلك الكلمة! يا لها من بلسم! يا لها من ترياق!
ظل أبونا يسامرنا في الليل. وقبل الفجر بقليل قام عنا، وقام المشيعون معه. ذهب إِلَى قبره ليستريح، ووعدنا بأنه سيعود قريبًا، بعد أن ننتهي من قراءة الكتاب، ونعيد ترتيب كل قطع البازل!.