خريف العمر

بدأت في مراقبه الشجرة التي أمام فناء بنايتنا كأنني أراها للمرة الأولى، يختلف منظورنا إلى الأشياء بمرور العمر، لا شيء يتبقى منا إلا خدوش الروح وندبات القلب.
 سابقًا، قبل بلوغي الخامسة والخمسين ما كنت ألاحظ تساقط الأوراق التي كانت منذ أيام شديدة النضارة لا يشوبها شيء، لونها أخضر فاقع يظهر بقوة مفرطة، لا شيء إلا أيام وتتساقط الأوراق في استسلام ورضوخ للأيام، ما عاد ماء ينفع أو غصن يتمسك بها، صبغته الأيام بألوان أخرى، وليس أمامها إلا السقوط كسائر الأشياء، فدورة الأيام لا تعرف الاستثناء كذلك. لافتة «المصعد معطل» لا تعرف استثناء، ترهق الجميع خصوصًا إذا كانت تتعاون مع سلم بنايتنا بدرجاته الراسخة التي يصعب تجاوزها بمرور الأيام. بخطوات تبدو سريعة بدأت الصعود حتى تحولت إلى خطوات بطيئة وهزيلة ومشتتة. استعنت بأحد الحوائط لألتقط صرخات أنفاسي التي نعتتني بأقسى الشتائم جراء خطواتي. 
ارتكنت إلى الحائط لأجد خلفي أحد أبناء جيراننا المزعجين يتساءل: لماذا أقف هنا شردت حينها إلى فناء منزلنا القديم عندما سألت جدي إبراهيم عن سبب توقفه الدائم والمتكرر أثناء صعوده التفتَ إليّ حينها، وهو متشبث بعكازه وبصوت محشرج قال: عندما تصبح في مثل عمري ستعرف.  لم أجد أعظم من إجابة جدي ابراهيم لأخبره بها، ليقطع حديثي مع ذلك المزعج صوت رقيق عذب يحوي بين ضلوعه أيامًا لم تنفد وأملًا لا ينقطع وشغفًا مستمرًا. اتجهت بنظري إلى مصدر ذلك الصوت حتى تقترب يسرية- أحد جيراننا الأعزاء- والتي هاجرت منذ زمن. لم تتغير كأنها لم يمر بها العمر فأفقدها رونقها، بل ما زالت تحتفظ بسماء وجهها الصافي الذي لا يحمل أي سحاب. توسعت حدقة عيني وتخشّبت ملامحي وهربت كلماتي حتى ابتلعت ريقي ثم أغمضت عيني لحظات بصوته يملؤه الاندهاش:
يسرية؟!
بصوت مهذب قالت:
لا أنا ابنتها ليلى! 
حينها أدركت أنه ما عاد ماء ينفع أو غصن يتمسك بنا. حاولتُ تجاوز الأمر، وبعد حديث لم يتجاوز كثيرًا ثرثرة رجل تجاوز الخمسين. استأنفت طريقي إلى حضن زوجتي الذي أصبح يمتلئ بذكرياتنا الدافئة ويعوضني عن درجات السلم وبداية أيام خريف العمر ■