وفاة صلاح الدين

في القرية الصغيرة المرمية على صدر الفقر والبرية المفتوحة على الموت من كل الجهات، على أطراف المدينة المسكونة بالخوف والموت، كان صلاح الدين ما يزال جنينًا في بطن أمه، ولديه أمنية واحدة، وهي: أن يخرج من جرابه اللحمي ليرى وجه أمه وأن تضمّ جسده الغضّ بين يديها وتقبّل وجهه دون أن يفصل بينهما جدارُ الرّحِم السّميك، ثم يعودَ إلى جرابه مرةً أخرى.

 كان شوقُه لها ممزوجًا بالإشفاق عليها؛ فقد أدركَ من خلال رتابة الاصطدامات التي يتعرّض لها في كيسِه اللحمي أنّها تكدح نهارًا في الحقول، وفي الليل يسمعُ أنّاتها الخافتة من التعب ممزوجًة بالأسى على فراق شخصٍ عزيزٍ عليها مات على يدِ بعض القتلةِ المجرمين.

لم يعرفْ صلاح الدين ـــــ وهو جنينٌ يسبحُ في ماء الحياة ـــــ مَنْ ذاك الشخصُ الذي فارقها؟ ولمَ فارقها؟  لكنّه كان يدركُ أنّ ذلك الشخص ترك آلامًا وغُصصًا لا تُنسى، وأنّه تربطه به صلةٌ وثيقةٌ؛ لأنٌه يظلّ يسمعها وهي تكرّر أمنيته في رؤيةِ ولده بينما تضعَ يدها بحنوٍ على بطنها المنتفخ الذي سرعان ما يتشنّج وهي تدعو على من تسبّب في مأساتها:

  • يا ربّ، خرّب بيت هؤلاء المجرمين القتلة كما خرّبوا بيتي.

استمرّ صلاحُ الدين في بطن أمه يكابدُ مثلها الجوعَ والتعبَ في النّهار، والبردَ والخوفَ في الليل، ولكنه يظلّ صابرًا بانتظارِ اليومِ الموعودِ، وهو خروجه إلى الدنيا؛ ليرى وجهَ أمّه، وبينما تضم جسده الغضّ بين يديها وتقبّل وجهه دون أن يفصل بينهما جدارُ الرّحم السّميك.

في إحدى ليالي الشتاء الباردةِ زادت الحرارةُ من حوله؛ فاستيقظَ هلِعًا، ظنّها صلاحُ الدين للوهلة الأولى أنّها إحدى نوباتِ كوابيس أمّه الليليةِ، حيث ينقطعُ نفسُها ويتعرّق جبينها، ثم تشهقُ فزعةً، لكنها سرعان ما تستغفر ربّها، فتهدأَ، وتعودَ إلى نومها.

لكن هذه المرةُ الأمرُ مختلفٌ، فقد اشتدّت الانقباضاتُ وعلا الصراخُ، أصبحت جدرانُ الرّحم قاسيةً، حاول أن يستكشفَ الأمرَ ويسترقَّ السّمع، لكن الارتطامات والصراخ لم يتركا له مجالًا؛ فتمسّك بحبله السّري بقوة.

  • لقد عادَ المجرم، قتلَ أحدَ جنودِنا... يصرخُ أحدهم بصوتٍ كالعذاب.
  • سوف نعلّمكم الطاعةَ يا حُثالة... صوتٌ آخرُ يمتلئ خُبثًا.

أمسكَ صلاحُ الدين حبلَه السري وشَهَره كسيفٍ في وجه المعتدين، لكن ضربةً قويةً في البطن جعلته يدورُ حولَ نفسِه في حركةٍ دائريةٍ، والتفّ الحبلُ السُّري حولَ عنقه.

وصلَه صوتُ أمِّه تدعو في ضراعةٍ:

  • يا ربّ، خرّبْ بيت هؤلاء المجرمين القتلة كما خرّبوا بيتي،

 أدرك حينها أنهم المجرمون القتلة عادوا لسببٍ ما، وأخذوا يضربونها بآلاتٍ حادةٍ فتصرخُ هلِعة، كان يحسّ بيدي أمّه تحوطانه لتحميه، لكنّ الضرباتِ تشتدّ أكثر فأكثر، وظلّ صلاح الدين يدورُ معها مرتطمًا بجدرانِ الرّحم، تمنّى أن ينتهي هذا العذاب بسرعةٍ كنوبةٍ من نوبات كوابيسِ أمه الليليّة، ضربةٌ خاطفةٌ في البطنِ كادت أن تقطّعه نصفين، تذكّر أمنيته التي ظلّت تراودُه وهي: أن يرى وجه أمّه وأن تضمّ جسده الغضّ بين يديها وتقبّل وجهه دونَ أن يفصل بينهما جدارُ الرّحم السّميك.

وفجأةً لمع ضوءٌ خاطفٌ، شيءٌ حادٌ قاسٍ يمزّق أحشاءَها فيندلِقُ صلاحُ الدين ككُرةٍ طريّة يسقطُ على الأرض، رأى وجهَ أمّه ملطخًا بالدّمِ والفجيعةِ، انتظرَ أن تضم جسدَه الغضّ بين يديها وتقبّل وجهَه، لكن ذلك الشيءَ الحادّ القاسي ذا الضوءِ الخاطفِ كانَ قد سبقَها إليه.