فقد

على غير العادة، لم أفقد في تلك الليلة المشؤومة دمية أو لعبة من التي يشتريها لي والدي بين حين وآخر من بسطة الحاج 
أبو حسن، ولا فردة من جواربي البيضاء أو الزهرية، ولا قطعة نقود معدنية، ولا حتى ورقة من فئة الخمسة أو العشرة أو الخمسين ريالًا. لم يكن المفقود قلم حبر أو رصاص، كان شيئًا مغايرًا لكل ما فقدته طيلة حياتي، ومما يزيد الأمر سوءًا أنه، وإن اجتهدت أمي في البحث معي عنه، لن تجده، فما يفقد مني كتب عليه ألا يعود أبدًا، حتى إن ثابر والدي العطوف في محاولة شراء بديل للمفقود لن يفلح في ذلك. لا يمكن له أن يشتري ذلك المفقود من البقالة، أو سوق الخضار، أو سوق الجمعة، أو شارع الحب إذا بالغ والدي في الاجتهاد وابتعد عن نطاق البيت كثيرًا. 
في تلك الليلة، التي لا أتمنى لإنسان سواء كان صديقًا لي أو عدوًا أن تمر عليه ليلة مثلها، فقدت بغتة قلبي.
لم أخبر أحدًا بمصابي الجلل، ولا حتى أمي أو أختي، ولا حتى صديقتي وجارتنا وداد التي تقيم في الشقة المجاورة لشقتنا، ليس لأنني بطبيعي أحب كتمان الأسرار، وليس لأنني أخشى ألا يصدقني أحدٌّ، بل لأنني لم أسمع في حياتي قط عن إنسانٍ فقد قلبه. لم أشاهد ذلك حتى في أفلام الكرتون، ولم تروِ لي جدتي ذات الخيال الواسع قصَّةً من هذا القبيل.
في الحقيقة لم أكن أعلم كيف ستدبر أمي معضلة إيجاده، هل ستنفض فراشي ثلاث مرَّاتٍ وهي تقرأ مرارًا وتكرارًا سورة الضحى؛ منبرةً على قوله تعالى: ﴿ووجدك ضالا فهدى﴾، إلى أن تجده! أو ستطل برأسها تحت سريري الصغير باحثةً عنه هناك! أم إنها ستسارع إلى نبش جيوبي وفحص ثيابي المكدَّسة في سلة الغسيل؟! لم أكن أعلم أيضًا هل ستوبخني على إهمالي البالغ والمتكرر، وتأمرني بالبحث عنه جيدًا، فلعلَّه سقط مني هنا أو هناك، ثم تقترح أن نسأل عنه الأصدقاء والزملاء والجيران والباعة في الطريق لعل أحدهم لمحه في مكان ما!
اكتشفت ضياع قلبي حين مرّرت يدي فجأةً على صدري، فشعرت على حين غرَّةٍ بفراغٍ هائل يتمدد في الجهة اليسرى منه عند مستقر القلب تمامًا كما أخبرتنا معلمة مادة العلوم. لم أتوقع أن يحوز قلبي كلَّ هذا الحيز الكبير من صدري إلا بعد أن أصبح مقره الخاوي الآن يشكل ثقبًا عميقًا وباردًا. كان شعوري بالفراغ المستشري يسار صدري جليا لدرجة أنني حاولت مرارًا استكشاف كُنه تلك الفجوة المظلمة داخلي من دون طائل. 
أردت بشدَّةٍ أن تنفذ يدي الصغيرة إلى ذلك التجويف المعتم في أعماقي مثلما تنفذ إلى كيسٍ فاحم اللون. لم أفلح في ذلك ولو لمرَّةٍ واحدةٍ. لم أستسلم بسهولةٍ، فما إن تنتهي محاولاتي اليائسة، حتى أشرع مجدَّدًا في محاولات أكثر بؤسًا ويأسًا. لم يكن هذا كله يشغلني عن الضجيج الذي اجتاح كياني، واستحوذ على جميع حواسي، ومن المؤكد أنّه بسبب تفكيري العميق والحزين في ذلك الفضاء الأسود المنبسط في صدري. 
نعم، إنَّني أفكر دونما توقفٍ في قلبي المفقود. يا ترى أين يكون الآن؟ هل ما زال ينبض أم إن شرايينه قد توقفت، وأوردته قد لفظت آخر أنفاسها بمجرد فقدي إيَّاه؟.. لماذا اختفى؟ وكيف؟ هل انسل من صدري ليلة البارحة وأنا نائمةٌ ولم أنتبه إلى غيابه إلّا هذه الساعة؟ هل انفجر مثل بالون ظهيرة هذا اليوم القائظ؟ هل سقط من جوفي وأنا في طريقي إلى المنزل راكضةً قبيل ساعة؟ أين حواسي؟ فجأة تناهى إلى مسامعي صوت والدي بصوتٍ مخالفٍ ومغايرٍ لصوته الذي أعرفه كلّما بكيت لفقد شيءٍ أو ضياعه. كان صوتًا أشبه ما يكون آتيًا من كلِّ مكان، ومن اللامكان أيضًا. لم يكن صوتًا حنونًا ولا جهوريًا. لم أتبين ما كان يقول.
كنت مرعوبةً ومضطربةً، إلا إنني ويا للعجب لم أشعر، كما كان يحدث عندما أتعرض لموقفٍ مروِّع، بقرع كالطبول عند مرتع قلبي، منكمشةً على نفسي في زاوية الحجرة كخرقةٍ باليةٍ أو ورقة خريف جافةٍ تعصف بها الريح ذات اليمين وذات الشمال. في منتصف الحجرة كانت أمي تقف هناك محنية الظهر، تقبض على يسار صدرها وتبكي. أقلب عيناي بين وجه أمي الغارق بماء دموعها وصدري الأجوف، أطيل النظر في وجه أمي التي تشهد محاولاتي البائسة في اختراق قضبان صدري من دون أن تتفوه بكلمة. يا ترى هل تبصر أمي ذلك الصدع السحيق داخلي؟ 
لم أجد جوابًا عن أيٍّ من تساؤلاتي هذه حتى الساعة، بيد أن ما يثير دهشتي الآن هو أن الليلة التي أحسست فيها بفقد قلبي كانت هي الليلة ذاتها التي أغمض فيها والدي عينيه إلى الأبد.