مدد يا بني غازي مدد

عنيفة هي اللحظات الأولى التي تفتح فيها عينيك لتتأمل سقف غرفتك المليء بالشقوق لدرجة تجعلك تتساءل متى سيسقط فوق رأسك، هل سأترك اليوم هذه الحياة البائسة حقًا؟ ما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي في الشارع. 
- لماذا قرروا قتلك اليوم أيها البغيض؟
تلك كانت كلماتي وأنا أنظر بحسرة الى إطار سيارتي الرابضة أسفل ذلك المنزل، وقد غُرست سرنجة طبية فيه، هل كان مريضًا لهذه الدرجة؟
- هل ستلتقط له صورة؟  
انتزعني فجأة من حسرتي ذلك الصوت الأجش، كان ذلك صوت «لطفي» جاري السخيف وهو ينظر إليّ في لهفة من نافذة سيارته الأجرة، لهفة تجعلني أجزم بأنه من ثَقَب إطار السيارة، لا، «لطفي» ليس شريرًا إلى هذه الدرجة.
- تعال، أنا لم أُفطر بعد، سأوصلك مجانًا. 
إذن أنت لست شريرًا بالفعل، لا أحد يرفض مواصلة مجانية، وأنا لن أتنازل عن الفرصة التي تحايلتُ في سبيلها على مُديري جانيًا إجازة مَرضية، لم أُنصت إليه طوال الطريق، لكن رغمًا عني انسالت على مسامعي عباراته المعتادة مثل إنه خريج كلية آداب بتقدير «امتياز» ، وكيف كان سيكتب سلسلة ملف المستقبل بدلًا من د. نبيل فاروق، وكيف تسببت حرب الخليج في سفره إلى ليبيا للعمل، وكيف يمكنني أن أسافر أنا الآخر إلى هناك؟ لكن مهلاً، هذا العِبارة جديدة، كيف واجه هذا الأخرق صعوبات التعامُل معهم هناك كون معظمهم لا يتحدث العربية؟ عن أي ليبيا يتحدث؟ لا لن تعبث بعقلي، لحسن حظي وصلنا سريعًا.
- أستأذنك أن تترك لي باقي علبة سجائرك، أنا على فيض الكريم كما ترى.
يا لك من خبيث! لكنك لم تُفطِر! أنت تعلم أن العلبة ممتلئة وأنا لم أُدخن منها سوى لفافة واحدة وأعطيتك الثانية كنوع من المجاملة، كان ثمن العلبة أكثر من قيمة المواصلة ذاتها ، لكن من يدري.. ربما يصاب بقرحة نتيجة عدم إفطاره وتدخينه السجائر ويموت قبل عودتي.
كنت في الموعد تمامًا أمام موظف الاستقبال، ما هذه الابتسامة الصفراء يا فتى؟ طلب مني أن أتبعه بيده اليسرى من دون أن يتكلم، ضايقني لثوانٍ أسلوبه البارد، لكن لا بأس، فقط عدة أيام وسوف أسعى في فصله، دلفتُ خلفه مضطرًا الى قاعة ضخمة تمتلئ بأمثالي حرفيا، لماذا يرتدي الكل بزات سوداء؟
ما هي إلا لحظات حتى صعد أحدهم إلى المنصة ليتكلم، فغر الجالسون أفواههم عندما بدأ الحديث بإنجليزية أمريكية، مرت دقائق طويلة قبل أن أنتبه مع الجميع إليه عندما بدأ في التحدث بالعربية بلهجة شامية.
- اعذروني على تعريف الشركة بالإنجليزية لكنه تقليد لدينا، بالطبع لن أُعيده عليكم، فكما عرفت هي اللغة الثانية هنا.
على الفور تهامست في القاعة عبارات على غرار «نعم فلغتنا الأولى هي الألمانية» وهكذا حتى قاطعنا مرة أخرى: لا تقلقوا، التقييم سيكون باللغة العربية، والآن ليقم كل فرد منكم بملء الاستمارة المُرقمة أمامه.
كيف سيقيمون شخصًا لن يقابلوه؟ تسللت الريبة إلى قلبي موحية أنهم سيقومون بجمع ثمن الاستمارات الآن ومنحنا موعدًا وهميًا بعد أسبوعين لنعود ونجد المكان قد أصبح قاعة أفراح، لكن لم يحدث شيء من هذا لحسن الحظ.
بُرهة وبدأ الرجل في سرد عدة وظائف من التي كتبناها وطلب من مريديها الانتظار في أماكنهم بينما طلب من الآخرين الانتظار مع استماراتهم في جانب القاعة البعيد.
- معكم الآن عشرة نماذج مختلفة من اختبارات الذكاء، يرجى الإجابة خلال ثلث ساعة.
همهمات غاضبة في القاعة، لكن لا وقت لهذا، اذكر خمسة أسماء للأسد، هل سيشكل هذا فارقًا عندما يهاجمني؟ اذكر عشرة استخدامات للبرجل، أليس نوعًا من الأسلحة؟
- انتهى الوقت.
رفعتُ عيناي إلى ذلك المتعجرف أعلى المسرح وهي تكاد تذرف دمًا بدلًا من الدموع، لو كان كابوسًا لظل فترة أطول، نهضت متخاذلًا من مكاني لا أكاد أقوى على المشي وقُمت بتسليم الإجابة واكتفى مُستلمها بالإشارة إلى باب جانبي، لا، لم يطردني بل أنا أتوهم ذلك بالتأكيد.
ظللت وأنا متوجه إلى الباب أتعشم وجود مقابلة أُفرغ فيها على مسامع من سيقابلني كم الخبرات الوهمية التي أمتلِكها وقضيتُ الليل كله أختلقها إلا أنني وجدت نفسي في دهليز يؤدي إلى الخارج وبجواري أحدهم يتحدث عن تفاؤله بالنتيجة، لا أعرف لماذا كان يشبه «لطفي»، هل تمتلك سيارة أجرة؟
يبدو أن زمننا قد انتهى، لم يعد أحد ينظر إلى سابق خِبرتك أو شبكة معارِفك أو حتى خطاب توصية زوج خالتك ليرد عليك مُتلقيه بأن تعتبر الأمر مُنتهيًا، إنهم صاروا يبحثوا عن الأذكياء، يبدو أن كل الطرق حقًا تؤدي إلى ليبيا، مدد يا بني غازي مدد.