حادث بوح

الواحدة بعد منتصف الليل... وحدي والظلام في هذا الشارع... الصمت يخيم على المكان إلا أصوات أبواق بعض السيارات البعيدة على استحياء... أتساءل «لماذا أنتظر، ولمن؟»... دون انتظار إجابة أرفع يدي مُشيرًا إلى إحدى سيارات الأجرة.
- بعد إذنك يا أستاذ دقيقة بس (أَفَوِّل) غاز.
- اتفضل.
عادة عندما أستقل إحدى وسائل المواصلات أنظر إلى أحد المحلات البعيدة وأعتبره هدفًا. يقترب أكثر فأكثر حتى أعبره لأُحدد غيره... محاولة لكسر الملل بعض الشيء.
في محطة البنزين الانتظار وحده يتحكم في كل شيء... دورُنا السابع بين السيارات... أُحاول أن «أُدردش» مع السائق في بعض الأمور لقتل الصمت... يحدثني عن الحكومة ومعاملتها الشعب كما العبيد لأُحدثه عن تاريخ محمد علي... يصل بالحديث إلى اعترافه لى بأنه رغم كبره في السن إلا أنه ما زال قادرًا على (فتح بيت)آخر... فهو يفكر جديًا هذه الأيام في الزواج من أُخرى... فهو مثلما يقول سائق تاكسى (كَسِيب) ومنذ أن انتهى من تسديد آخر أقساط السيارة لم يعد يحمل همّ أي شيء... أقطع تواصلى معه بالسرحان بعض الشيء، وأسأل نفسي «هل يأت يوم أقدر فيه على (فتح بيت) ؟».
الشوارع والظلام مرة أخرى... لا أقدر على تحقيق هدف محدد فالمحلات مغلقة والظلام سائد حتى وجدت تلك الفتاة على بُعد... اعتبرتها الهدف... اقتربت أكثر فأكثر... وراحت ملامحها تتضح أكثر فأكثر حتى وجدتها تشير بيدها إلى السائق... استقلت السيارة معنا.

- هشوفك؟
- قريب.
- نازل إمتى؟
- مش عارف لسه.
تجلس في الكرسي الخلفي... أسمع نهنهات تحاول أن تخفيها لكنها كانت مسموعة... السائق يحاول قدر الإمكان فتح أي موضوع معها لكن دون جدوى فلم أستمع إلى صوتها حتى الآن... يسحب السائق منديلًا ويناولها إياه... تعتذر فى خجل بالإشارة.. حتى يضغط عليها قائلًا فى حنان «خدي يا ابنتي»... يأخذها البكاء.
- بتحب؟
- وما بحبش.
- يعنى إيه؟
- حب مش كامل.
سيارة ما تتبعنا في جنون... تصل إلى مسامعنا «قف... قف» في حدة... أتعجب والسائق... يسألني «تبعك يا أستاذ؟» أُسارعه بالنفي... أنظر في المرآة لأجد الفتاة تبكي في عصبية... أسألها في جمود «عايزاهم ولا لأ ؟»... أنظر في المرآة مرة أخرى لأجد إشارتها بالنفي... لتبدأ المحاورة.
- يعنى إيه حب مش كامل؟
- أن أحبها، ولا أقدر على البوح.
- ليه؟
- إن كان يحلو لي حبها، هل يحلو لها؟!
السيارة في طريق الكورنيش... لا شوارع جانبية أو منافذ... أنتظر والسائق أن تحدثنا الفتاة عما يحدث لكن دون جدوى... فقط صوت نهنهتها الذي يعلو شيئًا فشيئًا... يتسرب الملل إلى السائق من كثرة المحاورة دون سبب... يتوقف.
- وهي؟
- مالها؟
- فين؟
- هي في بلد وأنا في بلد.
في السيارة أنتظر القادم من السيارة الأُخرى... يفتح الباب الخلفي ويجذب الفتاة رغمًا عنها... أسمع صوتها لأول مرة... صوت رقيق تُفسدُ جَهْشَةُ البكاءِ الكثيرَ من عذوبته... تتوسل إلى السائق قائلة «ربنا يخليك ماتسبنيش ليهم» يسارعها بالرد «أنا كبير في السن يا بنتي... ماقدرش»... تتجه إلى شخصي دون أن ألتفت إليها تتوسل أكثر ولا ألتفت... أشعر بها تُقبِّل كتفي في رجاء أكثر «والنبي ماتسيبني ليهم»... لا ألتفت... فلم أجد منها ما يقنعني أن أدافع عنها... يأخذها الرجل للسيارة الأخرى وأنا أُتابع الموقف من المرآة الجانبية.
- أنا في بلد وأنت في بلد!
- فعلًا.
- أنا هي؟!
- .......... !
- مش لاقية سبب إنك تخاف تبوح.
- و ......؟
- لذلك هعتبرك ما قولتش حاجة.
- لإمتى؟
- لحد ما تقدر تبوح.
أنا والسائق وحدنا والظلام في هذا الشارع... الصمت يخيّم على المكان إلا أصوات أبواق بعض السيارات على استحياء... نحاول أن نبرر ما حدث منا... «أنا كبير في السن يا أستاذ، مش حمل الضرب»... أبرر قائلًا «عمومًا كانوا أكتر منا، وأنا ضعيف»... تبدأ السيارة في التحرك... ينبهني السائق لبصمات أحمر الشفاه التي على كتف الجاكيت بقايا قُبلة توسّل الفتاة... أتحسس كتفي لأجد أحد أصابعي قد تلطخ بأحمر الشفاه... أبتسم في هدوء قائلا «تقريبًا هحتاج أغيّر الجاكيت»! ■