«رياض العشاق»

 تبدأ مشكلتي مع التأخر، أندم أشد الندم على اللحظات التي أضعتها في وصلات النوم الزائد وأعد نفسي بعدم مجاراة النوم مرة أخرى، غير أنني أركز الأمنيات المشتتة في سياق واحد؛ وهو أن أمرّ من «رياض العشاق» أقصر السبل إلى المدرسة بأقل الخسائر. 
لم يكن «رياض العشاق» بالذي يخيفني، ففي جنباته كنا نلعب الخبيئة، ونقطف التوت من شجيراته أيام الربيع... كل ذلك كان يحدث ونحن مجتمعون يؤنس بعضنا بعضًا؛ أنا وولد عويشة الحمقاء وأحمد الدروج و الطونينك... كان «الرياض» بأشجاره وأوساخه وأحواضه المائية المخضرة متعتنا الأزلية. أما «الرياض» في الصباح فهو شيء آخر، عالم خالٍ من الحياة ومن صوت الأصدقاء. لكن أكثر ما كان يرعبني في صباحات «الرياض» المتأخرة هو ذلك المعتوه المترصد عند مخرج الرياض والمعروف بالمقذور. 
 لم يكن المقذور يضرب أحدًا ولا يعتدي على أحدا، لكنه كان معتوهًا بوهيميًا شديد الاتساخ، يقضي حاجته على نفسه في غالب الأحيان، ثم يزيد  المشكلة الكبرى أنه مجنون له في محبة خلق الله وكرههم طرائق قِدَدًا، فمنهم من ينفر منه، فما إن تقع عينه عليه حتى يصيح ها هو ها هو... ومنهم من يقع في غرامه فيسعى إلى عناقه. كنت - للأسف - من الصنف الثاني، فذات صباح وأنا متأخر كالعادة انقضّ عليَّ المقذور، وعانقني عناقًا حارًا، ولم أتمكن من الفرار من قبضته إلا بصعوبة بالغة. أسرعت مبتعدًا عنه وأنا أتقيأ على نفسي مما زاد من عفونتي، وخفت من عقاب الأستاذة إذا تغيبت أو تأخرت فحاولت أن أعالج ملابسي بماء الصهريج الكبير، ثم توجهت نحو المدرسة وأنا خليط من العطور النفاذة، ما أثار امتعاض الزملاء في الفصل فتأففوا مني. ثم وصلت آثار الرائحة إلى المعلمة الأنيقة، تأففت وأخرجت قنينة العطر وشرعت ترشه علينا كأننا الذباب، وحين لم تفلح رائحة العطر في القضاء على أثر خليط العطور الذي داهمني ذلك الصباح اضطرت المعلمة أن ترسلني إلى البيت محذرة إياي أن آتي مرة أخرى إلى المدرسة من دون أخذ «دوش» الصباح. لم أعرف في البداية معنى هذه الكلمة، وحين عرفت فيما بعد أنها تعني الحمام تساءلت في نفسي: كيف يمكن للوالد أن يصطحبني كل صباح إلى حمام الحي كما يفعل كل شهر؟
الخوف من التأخر يضطرني إلى المرور من «رياض العشاق»، توقفت قليلًا لأترصد إن كان المعتوه في مكانه المعتاد، غير أن الزاوية تتيح لي رؤية مكانه، وهتف بي هاجس جديد: تغلب على حالة الشلل التي يسببها لك الخوف واضغط على زناد الجري،انطلقت كالسهم مستجيبًا لنداء الشجاعة الذي حفزته كلماتي لنفسي. هرولت وأنا أوجّه بصري نحو مكان نومه، عنت لي كرتوناته التي يفترشها. فارغة منه؛ ما أثلج صدري، غير أن ذلك لم يثنِ عزيمتي بل زاد من شحنة طلب الفرار فلن آمن غدر المقذور، قد يكون مترصدًا بي هنا أوهناك. ونجحت عملية الفرار. مررت بسلام. 
في الفصل تأفف مني التلاميذ مرة أخرى، وتأففت الأستاذة. رشت علي رائحة العطر، ثم أمرتني أن أتوجه نحو البيت لآخذ «دوش»... وتساءلت مرة أخرى إن كان كل هؤلاء يتوجهون إلى الحمام كل صباح حتى ينعموا بدفء الفصل. وتساءلت كثيرًا: إن كان المعتوه قد أفلتني هذا الصباح، فلماذا تطردني الأستاذة من القسم وينفر مني التلاميذ كما ينفر أهل الحي من المقذور؟