طير الحب

كانت أمي تعتني بطير الحب بطريقة مُبالغ فيها، ذلك الطير الصغير ذي الألوان الزاهية الجميلة المنتشر باسم الكناري، سقط على كتفها وهي تنشر ثيابنا وهمومها وخيباتنا وشجارات أبي المتكررة وحظها العاثر الذي لم يتساوَ مع أخواتها على حبل الغسيل. كانت لا تكف أبدًا التكلم مع الطير، وتقول: «داخل هذا الطير روح أختك». أختي التي ماتت بسبب إهمال الأطباء منذُ مدة، ومات معها كل شيء في العائلة وأصبحت الحياة مجرد إطار فارغ بلا معنى، كانت تشكو للطير وتبكي، وتقبلهُ عشرات المرات في اليوم، ودائمًا ما تقول حين يحاول أخي الأكبر منعها من هذه الأفعال. «إن الأرواح تأتي على شكل طيور جميلة». لم أصدق كلامها، كنت أواسيها وأحزن كثيرًا عليها، فهي لم تفقد «رأس بصل» مثل ما تقول كل مرة يحاول أحد إخراجها من جوها الحزين الذي يُبكي كل شيء داخل المنزل. منذ فترة تعب قلب أمي بسبب بكائها المستمر ولطمها اليومي على شباب أختي الضائع، لكن لم يمنعها أي شيء من مواصلة المداراة والاعتناء بذلك الطير الذي أصبح أخيرًا حين يرى أمي يرفرف بجناحيه ويصدر صوتًا يملؤه الشجن كأنها أمه، بدت آثار التعب والشحوب والفقد واضحة على أمي، وأصبح وجهها باهتًا ليس فيه ملامح للفرح إطلاقًا، وعيونها كأنهما حفرتان ممتلئتان بالمياه التي لا تنضب، واشتعل رأسها شيبًا، تغير ذلك الوجه الذي يشبه بداية الفجر بطاقته وسحره وجماله، وتعب ذلك القلب الكبير الحنون، ذلك القلب الذي يشبه سَيَلانًا دائمًا من الحب والمشاعر، ذلك القلب الذي لا يشتكي ويحب الجميع، قلب أمي، حيث لا كلمات بعد، لكن الحياة دائمًا تصر على تخريب الأشياء الجميلة، فأصبح قلبها الآن متعبًا، وغير منتظم، في دقاته، وعلى إثر ألم كبير ومفاجئ نقلنا أمي إلى المستشفى وحالتها خطرة، ويجب أن تدخل إلى العمليات الآن، وتبقى سبعة أيام على الأقل تحت الرعاية، هذا ما قاله الطبيب. كان طير الحب حزينًا ولم يأكل أو يصدر أي صوت، حاولت أن أستفزه لكنه كان غير مبال وغارق بحزنه، مثل ما كانت تفعل أختي، رحمها الله، في ما مضى عندما كانت ترى أمي تبكي بعد أن تتعب من أفعال أبي القاسية، ولكي لا نرى دموعها كانت أمنا تهرب إلى سطح المنزل وتخبئ نفسها وراء ثيابنا المنشورة على الحبل.
تركنا المنزل كلنا وذهبنا إلى المستشفى بعد أن أخبرنا أخي الأكبر بأن حالة أمنا غير آمنة. مكثنا أمام باب المستشفى لأيام، افترشنا الأرض وجلسنا قلقين ولم ننتبه لكل شيء، وأخذنا نحسب الدقائق وانتظار خروج أمنا بسلامة، كنت خائفًا بشكل كبير فأنا جربت الفقد.
 كنت عائدًا إلى المنزل فجرًا كي أبدل ثيابي بعد أن طمأنني الطبيب على صحة أختي، وفور وصولي رن هاتفي، أخي الأكبر يبكي بصوت يقطعه الألم والحسرة ويقول «ماتت أختنا يا أخي». منذ تلك اللحظة تغير كل شيء فعرفت أن الحياة يمكن في لحظة صغيرة تافهة أن تفقدها، بعدها رفعت رايتي البيضاء، وكرهت كل شيء يرن.
لم نذهب إلى المنزل كلنا إطلاقًا حتى تخطت أمي أزمتها، عدت إلى المنزل كي أغيّر ثيابي، فوجدت طير الحب ميتًا، نعم، كان ميتًا داخل منزله، فكرت بأمي وخرجت على الفور كي أجلب طيرًا يشبهه كي لا تحزن وتضغط على قلبها الرقيق، وفي «البراجة»، وهو سوق كبير خاص بجميع أنواع الطيور في المدينة، لم أجد طيرًا يشبهه وفجأة دون سابق إنذار سقط طير من السماء في حضني، كان لونه أبيض، لأول مرة أرى مثل هذا البياض الناصع في حياتي، شعرت بدقات قلبه، لم يخف مني وحين تركته حتى يطير لم يفعلها رغم سلامة جناحيه، وكان يفتحهما بقوة كأنه يحاول أن يضمّني إلى صدره الصغير. كل الناس هنالك حاولوا أن يسرقوه لشدة جماله، أو يشتروه، لا أعرف لماذا أصررت أن أبقيه، وبسرعة عدت إلى المنزل، لم أفكر بشيء حتى دخلت ووضعته في القفص فرنّ هاتفي، أخي الأكبر يبكي بصوت يقطعه الألم والحسرة، ويقول: «ماتت أمّنا يا أخي، ماتت الحياة»، وبلحظتها صدر صوت من الطير، كان يشبه أنين أمي.