لقد نجحتِ

الساعة الثامنة والنصف صباحا، كرّ عبدالرحمان راجعًا إلى بيته. يحث خطاه، يحاول سبق الزمن وقد انفرجت أخيرًا أسارير وجهه بعدما أتم مهمة بالغة الأهمية. استطاع الحصول على مستحقاته لأعمال جني الزيتون من أحد المُزارعين وكذلك على تسبقة مالية لأعمال بناء قادمة. وصل بيته أخيرًا وقد تصبب جبينه بالعرق. كانت ابنته الكبرى في انتظاره عند البوابة تجلس على طرف الأريكة تمسك بحقيبة سفرها، حينما رأته استبشر وفرح وجهها وقد علمت من نظراته الباسمة أنه قد حل المسألة. أعطاها الأموال وما يكفيها لمدة بقائها في السكن الجامعي. شكرته ودعت له، وحمدت الله على فضله وكرمه وانطلقت قاصدة محطة القطار.
لم ينسَ الأب عبدالرحمن بالطبع مصروف ابنته الطالبة الجامعية، لكن حدث أمر طارئ أمس بعثر كل خطته المالية تمثّل في مرض ابنه الصغير الحامل لإعاقة جسدية فاضطر لصرف كل ما ادّخره لابنته ونفِد كل رصيده من مال، لكن رصيده من الأمل لم ينفد.  بخروج بسمة قاصدة الجامعة وككلّ مرة لم يبقَ في البيت ثمن رغيف خبز.
غير أن عبدالرحمن لم يسخط ولم يصبه النكد بل كعادته نفَض يديه بابتسامته المرحة، وهو يقول مداعبًا زوجته:
- أصبحنا خاويين إلا من الله.
  كان ابنه الثاني، طالب الثانوية، يراقب المشهد في صمت من باب غرفته، يحدّق في هذا الأب وقد تجسّد في نظره بطلًا من أبطال هذا العالم، وكان فعلًا كذلك.
تصرّمت الأيّام وانْطوت آخر صفحة من كتاب عبدالرحمن ثم أُغلق إلى الأبد، بعدما وُجد ملقى على قارعة إحدى طرقات المدينة وقد صمت قلبه فجأة، وكانت تلك آخر أنفاس مبارزات طاحنة مع الحياة قد استسلمت أخيرًا نحو نفق السماء.  اندلع ذلك الحريق السعير في الأفئدة، شبَّ ثم خَمد، مُخلّفًا أضرارًا فادحة ونفوسًا بالية وأرواحًا استبد بها الوجع حتى اهترأت، ثم حان الوقت، لم يبقَ لتلك الأسرة بعد فقدان رجْلِها خيارات عديدة... كانت الأم مسخّرة لأجل ابنها المُعاق، وكان الابن الثاني ما زال لا يقوى على تحمل مثل هذه المسؤولية وكانت بسمة تعْقل ذلك جيدًا، وقد ذهبت إلى مصيرها بنفسها بلا جدال ولا كثير من التفكير بقدمين ثقيلتين تحمل جسد الأم التعِبة لابنها الكليم، تتقدّم بخطى مبعثرة وذهن مشتت وهي التي لم تتجاوز العشرين.
وَقفت في أوّل محطّة بمسيرتها الجديدة بعدما سحبت شهادة التسجيل من الجامعة وهي التي لم تكمل عامها الثاني ضمن خمسة أعوام باقية.
ها هي تتوجّه إلى أقرب مركز تشغيل في المدينة.
تماهت إلى ذهنها خيالات وصور لحياة جديدة لم تألفها، حيث لا تفوق فيها، لا نجاح، لا أحلام مُحقّقة، لا مركز محترمًا رفيعًا، بل مركز تشغيل وأبواب عليها طَرقُها في المستقبل.
كانت عازمة على أن تنهض بهذه العائلة لكنّ القدر استعجل أداءها وسحب أوراقه وحسم النتائج وفرّق آمالها. أرادت أن تقذف هذه الحياة في تلك اللحظة بشتى الشتائم بعدما باعتها هذه الأخيرة بأبخس الأثمان وسرقت منها أعزّ إنسان. 
احتشدت في ثنايا عقلها الأفكار والهواجس وأُعتمَت مساحات الأمل داخلها. اغتمت حتى كادت تنهار أرضًا لولا أنها استرجعت وتماسكت وابتلعت غصّة حانقة أخذت على أثرها نفسًا عميقًا ثم تفلّتت من بين شفتيها «الحمد لله على كل حال».
تقدّمت خطوتين إلى الأمام قاصدة سبيلها، وإذ بها فجأة تسمع صوتًا جليًا كأنه صراخ يهتف بمسمعها:
«لقد نجحتِ». 
تيبّست في مكانها وهي تحاول التركيز... 
ما كان ذلك الصوت؟ 
هل هو من عند الله مواساة وتهوينًا، أم هو من دهاليز كهوف النفس الموحشة أو من تلك الأزقة المهجورة المُغبرّة المُبعثرة بين طيّات الذاكرة أو من بين أنهار المشاعر الراكدة الخامدة المنسيّة. ما كان ذلك الصوت يا ترى؟
من أين أتى ذلك الصوت الذي جعل أنفاس الأمل تدبّ في أوصال روحها. تحاول تذكّرها، تصيخ السمع، لم تكن تهذي لقد سمعته، تنظر يمنة ويسرة،
لا شيء...لا صوت.
 تسكت الأفكار في ذهنها للحظة ثم تنظر أمامها، تصلّبت روحها، وتجلّد عزمُها، ومضتْ في سبيلها... وذلك هو القدر ■