طابور الأحلام

لم أتوقع طردي من العمل الذي قضيت فيه أكثر من نصف حياتي بهذا الشكل المُهين. 
- لم تعد كما كنت قبل، أصبحت عبئًا على الشركة. 
انتهت حياتي في الشركة التي اعتبرتها بيتي الثاني، لم أطلب من قبل أي حافز أو وقت إضافي، ولم أتكاسل عن أداء مهامي. 
- براتبك يمكننا تعيين ثلاثة شباب. 
- لكني أمتلك خبرة لن تجدوها في الشباب... كما أن... 
 شعرت بضجيج في رأسي، رغم الصمت الذي ألجم لساني، تحطمت آمالي في تطوير الشركة على عتبة العمر. 
تسمرت أحاسيسي بجمود مثل لوح ثلج، لساني لم يجرؤ  على الرد على المدير رغم مئات الأفكار التي كانت تتنازع بذهني، لكنها تهاوت عندما رأيت النظرات الخبيثة التي تلوح من عينيه ممتزجة بابتسامة قاتمة ترتسم على وجهه الكئيب، وظهور تجاعيد جلية حول فمه تحكي عدد السنوات التي قضيناها معًا صديقين معظم الوقت وإخوة دائمًا. 
وقفتُ على عتبة باب الشركة، تطن رأسي بأفكار كثيرة وجدتْ لها أكثر من منفذ للعبور، تنساب من عيني دموع تمكنت من الانفلات رغم محاولتي كبحها، دوار يُشبه دوار البحر يعصف برأسي، وصداع يسري بها مثل موج يقصف مركبًا متهاويًا أوشك على الغرق. 
سرت برتابةٍ مُبتعدًا عن الشركة، وعن آمالي وأحلامي التي غرقت في لجة السنوات المتلاطمة.
- لا شيء يدوم. 
دوت في رأسي كلمات أحد الموظفين الجدد مثل صاعق كهربائي بقوة 220 وات. كل ما فعلته هو ابتسامة باهتة، لا أعلم هل كانت سخرية مني مما وصلت إليه؟ أم لا مبالاة بسبب تقدمي في العمر؟ أم هي تسليم واقتناع بأننا لن نأخذ إلا ما كُتب لنا؟
تتجمع المواجع مثل بركان ثائر يضرب داخلي، أتذكر فتراتي الأولى في العمل، السهر طوال الليل حتى تقف الشركة على رجليها، تنهض وننهض معها، تعلو ونعلو معها، ثم تتركنا لنسقط على رقبتنا ونفيق من حلمنا الوردي على كابوس الخيانة المُرعب. 
لا أتذكر كيف وصلت للوقوف أمام شباك مفتوح مُسيج بحديد، نظرت من خلاله، وجدت مكتبًا عليه العديد من الأوراق والملفات والأقلام متعددة الألوان، سندت جبهتي على طرف الشباك، أغمضتُ عينيّ، غُصت في مواجعي التي كانت تُسابق بعضها بعضًا في رأسي، كل شبر في الشركة محفور في مخيلتي، تتصارع الذكريات الكئيبة مع الذكريات المُفرحة، تدور بينهما حرب طاحنة تنتهي بانتصار الذكريات الكئيبة، وهزيمة مُخزية للمُفرحة. 
لم أفق من ذكرياتي إلا على صوت جهوري ينبح، ويد تهز كتفي اليمنى: 
- الموظف وصل يا أستاذ؟
نظرت وأنا أنزع عني كل الأفكار التي كانت تتنازعني، فوجئت بطابور طويل خلفي يمتد حتى نهاية الشارع. 
- كل واحد يقف في دوره. 
تحركت قليلًا للخلف، تساءلت عن سبب هذا الطابور. 
- التقديم على شقق منخفضة التكلفة. 
- قرض للمشاريع الصغيرة. 
- الشؤون الاجتماعية بتجهز العرائس. 
- طلب تعيين. 
تضاربت الآراء، كل منهم يجد في الطابور غايته، صُدمت من عدد المجتمعين؛ شباب وعجائز، رجال ونساء، من كل فئات المجتمع، الجميع يمسك في يده دوسيهًا ورقيًا يحتوي على العديد من الأوراق الممتلئة بأحلامهم التي يرجون تحقيقها عبر نافذة ذلك الشباك المُسيّج. 
عندما تساءلت عن كيفية إعداد الملف، أشاروا لي نحو رجل خمسيني يجلس خلف مكتب خشبي بعد نهاية الطابور، يجتمعون حوله، يملأ طلباتهم، ويتقاضى في المقابل:
- أي طلب بخمسة جنيهات. 
لم أتذكر كيف وجدت نفسي أقف في نهاية الطابور مُمسكًا دوسيهًا ورقيًا بيدي اليمنى، واليسرى تمسح عرق جبهتي.