حياة

 القرص الأصفر المعلّق في كبد السّماء يصبّ جام ناره على الأشياء كلّها. الهواء ينسحب عائدًا إلى مصادره الأولى. اختناقٌ. اختناقٌ. لا شيءَ في هذا العالم البائس إلّا الاختناق. يضيق صدري؛ فأحاول أن أعبّ بعض الهواء العالق في هذا الكون. أفتح شبّاك الغرفة. ما هذا؟ إنّه ليس الشّارع الذي تطلّ عليه نافذتي. أين الأشجار الخضراء الباسقة الواقفة دائمًا في الطّريق؟ التفتُّ إلى الوراء. هذه ليست غرفتي أيضًا... أين بابها؟! جدرانٌ أربعة وشبّاكٌ ضيّقٌ جدًّا. أين أنا؟ أين أنا؟ غريبٌ عنّي هذا المكان. لم أره من قبل.  أيعقل هذا؟! وحدي أنا في غرفة صغيرة، وسط صحراء صفراء قاحلة. وحدي أنا ولا شيء آخر؟! حاولتُ أن أصرخ لكنّ صوتي محبوسٌ داخلي. 
انفرط عقد دمعٍ من عينيّ، بكيتُ وبكيتُ.  يتملّكني حنين غامض إلى أيّ كائنٍ حيّ. ألقيتُ نظرةً أخرى من الشبّاك علّي أعثر على رَجُلٍ، أو امرأةٍ، أو صبي، أو عجوز، أو حتّى على آثار أقدام منسيّة لم تعبث بها يد الرّيح. لكن، لا شيء في الوجود؛ لا همسة، لا كلمة تخترق حاجز السّكون. أرضٌ موات، لا روح فيها ولا حياة. غلبني اليأس من وجود بشرٍ هنا. أريد أن أسمع أيّ صوتٍ؛ حتّى لو كان صوت صرصارٍ. ماذا قلتُ؟ صرصار! على الطّاولة المجاورة فنجان شاي. 
 ألتقطه بسرعةٍ. لا يزال في قعره بقايا سكّر. نثرتها على الأرض، وانتظرت أيّ صرصارٍ أتّخذه صديقًا عزيزًا، لكنّه لم يأتِ ليملأ فراغ حياتي. وجدتُ بعض فتات الخبز المتناثرة، وبعض قشور التّفاح، فوضعتها على حافّة الشّباك علّ عصفورًا يأتي فيؤنس وحدتي. انتظرتُ طويلًا، لكن من دون جدوى. ربّ، ما الذي يحدث؟ آخر ما أذكره أنّي... أجل... أذكر أنّ سطرًا شعريًّا زار مخيّلتي، أو كلمة! فامتشقتُ القلم لأكتب.  لكن لا أذكر شيئًا بعد ذلك. أين القلم؟ أين القلم؟ هاهو، إنّه متّكئٌ إلى الطاولة، ويرمقني بنظرة حزينة. مرّ شهران لم أمسك فيهما القلم لأستلهم الرؤيا. قفزتُ من فوري إلى القلم، حملته كما أحمل طفلًا صغيرًا وُلِدَ للتّو، فراح يهمس في أُذن الورقة كلمة، فكلمة ثانية، فثالثة. 
بدأتْ تتناسل الكلمات، حتّى أصبحت جُمَلًا، ثم نصًّا، عندئذٍ غطّتْ غيمة كثيفة قرص الشّمس الحامي، وعاد الهواء ينساب في الغرفة. أجل... هذه هي غرفتي الواسعة. وهذه كتبي التي أعشق. كتبتُ كلمة إنسان؛ فتناهت إلى مسمعي أصوات البشر من جديد. كتبتُ كلمة شجر؛ فسمعتُ حفيف أغصانها المؤنس. كتبتُ كلمة عصفور؛ فجاءت جوقة عصافير تشقشق وتغنّي على نافذتي. كتبتُ كلمة باب؛ فعاد للغرفة بابها، فتحته. عاد العالم كما أعرفه، وعادت الحياة مرّة أخرى كما عهدتها خضراء...  تسرُّ النّاظرين.