متسول رغم أنفه

بالأمس كنت في طريقي إلى القاهرة، تلك المدينة التي يغوص فيها البشر وتتزاحم في طرقاتها المحلات، ولا يبقى على الإنسان سوى أن يكون نملة تتحرك في غابة من الأشجار. ما عايشته في ذلك اليوم جعلني قاب قوسين أو أدنى من التسول، وأنا الذي طالما حاربت التسول ولم أعد أثق مطلقًا في شخص يحمل هذه الراية، فقد وصلت بعد تجارب عديدة إلى قناعة أن التسول حرفة لها أصحابها، ولهم الكثير من الأساليب التي يمكن أن تدر الدمع في العيون... فماذا أفعل وقد صرت متسولًا؟

قررت الذهاب إلى الطبيب، هذه المهمة كان يقوم بها ولدي، يأخذني في سيارته ولا أشعر إلا أنني من الباب إلى الباب. لا أعرف أين ذهبت ولا كيف وصلت، ولأنه لم يكن بالبيت، فقد قررت القيام بهذه المهمة وقلت في نفسي سوف أستقل المترو وأنا أعرف الطريق. خرجت إذن من المنزل وكانت المفاجأة الأولى بعد أن قطعت شوطًا طويلًا في السير، أنني نسيت هاتفي النقال، معنى ذلك أنني لا بد أن أجهز نفسي لكافة الاحتمالات، وتذرعت بأني أعرف الحارة التي بها المنزل، ومحل الفول على ناصية الشارع. كنت أحاول جاهدًا أن أقوم بحفظ الطريق بمنحنياته وتعرجاته ومساراته حتى إذا ما عدت ثانية فسوف يكون هذا هو الأثر الذي أقتفي. وبالفعل بعد عدة منحنيات كنت أمام المترو لكي أستقله إلى مقصدي. انتهت مهمتي عند الطبيب. ركبت المترو في طريق العودة، وبعد أن نظرت إلى الشارع بما يغوص به من بشر وأنا أرفع بصري إلى السماء وقد تغيرت ملامح الصورة تمامًا، هل يمكن أن أعود إلى البيت معتمدًا على ذاكرتي ودون أن أسأل أحدًا لأنني حتى لو سألت هل أقول إن ابني يسكن هنا وأنا لا أعرف عنوان المنزل، أو علامات الطريق. تساءلت ودقات قلبي تتزايد، هل هذا هو الطريق الذي أتيت منه؟ هل يمكن لي أن أجرب المشي فيه؟ وكيف ذلك والشوارع متشابهة إلى حد كبير؟ ماذا أفعل؟ وحط على رأسي ألف سؤال، كيف يطمئن ولدي عليّ وأنا في نهاية المنعطف الأخير من منحنى العمر؟ كيف يطمئن عليّ بعد أن تم فقد الاتصال به وهو لا يستطيع أن يتصل بي؟ بدأت في التحرك بقلب حزين وعقل مهزوز كيف التصرف أمام هذه الورطة التي وضعت نفسي فيها! ولا أملك القدرة على حسن التصرف. بدأت قدماي في التحرك وأنا أقدم قدمًا وأؤخر أخرى، وفرحت كثيرًا عندما رأيت بعض أسماء المحلات التي مررت عليها وأنا بالطريق إلى المترو، وتأكدت تمامًا أن المكان هو نفسه الذي أعود إليه، لكن ماذا لو فشلت في مهمة معرفة العنوان من تلقاء نفسي، لأنه لا أحد يعرف ولدي حتى يدلني عليه؟ هنا بدأت فى التفكير كيف أكون متسولًا؟ هل أرفع راية التسول وأطلب من أحد الأشخاص أن يعطيني هاتفه لكي أتصل بولدي ليحضر إلى المكان الذي أنا فيه؟ من حسن الحظ أنني أعرف رقم هاتفه تمامًا وأحفظه عن ظهر قلب، لكن كيف أطلب ذلك وهناك الكثير من الحوادث التي وقعت جراء طلب أحدهم الهاتف من أحد المارة، وبعد أن تسلم الهاتف انطلق بسرعة البرق على دراجة نارية مع صديق له بعد أن استولى على الهاتف؟ هل يمكن أن يحدث ذلك معي وأنا أكاد أبكي لأنني لن أستطيع أن أطلب ذلك؟ سأطلب من أحدهم أن يقوم هو بالاتصال برقم ولدي ومعه هاتفه ويشرح له المكان الذي أنا فيه لكي يحضر إليّ، حتى هذه فكرت فيها لأن صاحب الهاتف سوف يقول لا بد أنك ارتكبت جريمة أنت أو ابنك وتريد أن تستعمل الهاتف لكي تضعني في هذا المأزق الذي ربما لا تؤمن عواقبه. تزداد ضربات القلب وأنا أمضي في الطريق وأحاول أن أجد لنفسي وسيلة للاتصال. قلت سوف أختار شخصًا معه هاتف يكون من طراز قديم، بل وقديم جدًا ولا يفكر أنني سوف أخطفه أو أهرب به وأطلب منه هذه المكالمة، هل أقسم لهذا الشخص أو ذاك أنني لست متسولًا، لكن الظروف هي التي وضعتني في هذا المأزق واتجهت الى السماء أن يساعدني الله في هذه المحنة، التي أحاول أن أخرج منها، وفجأة وبدون سابق إنذار، وعلى طريقة أرشميدس حين اكتشف قانون الطفو وهو يصيح "يوريكا يوريكا"، اي وجدتها وجدتها. ها هو محل الفول الذي كان العلامة الكبرى لبداية طريقي وأنا أغالب دموع الفرح، لن أكون متسولًا، لن أطلب مكالمة من أحد، انحناءة أخرى على رأس الشارع ووجدت نفسي وجهًا لوجه أمام المنزل، نعم أخذت اتحسس حائطه وأنظر في ملامحه وأنا سعيد بتلك العودة التي ما كنت أتوقعها أو تخطر لي على بال، وتأكدت أنني في نفس المنزل ولن يقول لي أحد إنك متسول أو لص أو تهدف إلى شيء يغيب عن الأذهان، وحمدت الله أنني قد نجوت من هذا الاختبار، وعندها كان السؤال: هل المتسولون كلهم أشرار؟ وسكت عن الإجابة فربما كنت يومًا واحدًا منهم.