الزائر

منذ سنوات انتقلت مع أمي إلى هذا المنزل الذي نعيش فيه، تحدثني أمي دائمًا عن منزلنا القديم وكم كانت تحبه، لا أذكر هذا المنزل، وكلما غضبت لعدم مشاركة أمي تلك الذكريات الجميلة، تبتسم ابتسامتها الودودة وتخبرني أن السبب هو حداثة عهدي.
 بيتنا هادئ، لا يزعجنا جيراننا في الأعلى إلا ما ندر، وأمي هي أجمل ما في البيت؛ لا تتوقف أحاديثنا أبدًا، ننام متجاورتين لا يفصلني عنها إلا شبر، لا أمل من النظر إلى وجهها المنير، هي قمرنا ليلًا، وشمسنا نهارًا، ما يثير حماستي كطفلة أمرين؛ أولهما: وعد أمي بانتقالنا يومًا إلى منزل أكبر وأجمل، والثاني هو زائرنا الذي يأتينا أسبوعيًا في نفس اليوم والساعة، وفي كل صباح لهذا اليوم أطلب من أمي أن تصفف لي شعري القصير قبل حضوره، فتجيبني بلسان لهفتها لحضوره وبوجه لا تفارقه الابتسامة:
- أنتِ جميلة يا طفلتي في كل وقت.
أسعد بقولها؛ طالما أخبرتني أني أشبه حبة اللؤلؤ المستنير، يحضر الزائر ملقيًا سلامه علينا، حفظت كلماته التي لم أكل من الاستماع إليها، أرقب فرحة أمي عند وصوله، تشع ابتسامتها، يتوهج نور قلبها، في كل مرة أشك في فرار دمع عينيها لكنها لا تفعل أبدًا.
يبدأ حديثه:
- حضرت بحلتي الرمادية التي تحبينها، أرجو ألا تكوني مللتِ منها.
ترد عليه مومئة برأسها:
- أعشقها يا حبيب قلبي.
لا أدري سر إعجاب أمي بتلك الحلة التي لا تناسب قوامه الذي يزداد نحولًا في كل مرة.
- وحشتني يا زهرتي، أشتاق إليك كل يوم، أعد الأيام حتى أحضر لزيارتك، ادعي لي أن يقرّب الله بيننا حتى يمكنني الانتقال بقربك.
لا تعلق أمي على كلماته، ألمس حيرتها الشديدة بين رغبتها في انتقاله معنا وتمنيها ألا يفعل.
يمسك باقة الزهور التي أحضرها، ترتعش يداه وهو يمدها، لقد شاخ كثيرًا، تزداد حيرتي؛ كيف تعلقت أمي التي لم تقرب الثلاثين برجل تخطى الستين. 
حين أرى لهفتها وسعادتها بباقة الزهور يعاودني الصمت الذي لم أتجاوزه، تحين الآن فقرتي، يحدثني بصوته الحنون:
- عصفورتي الصغيرة، قرة عيني، أحضرت لك دميتك، سيأتي اليوم الذي لن نمل فيه من اللهو واللعب والمرح، كيف حالك؟ ما يثبتني على الفراق هو وجودك مع أمك، أعلم أنكما لا تتركان بعضكما، أدعو الله في كل سجدة أن يقرب لقاءنا.
يبكي، دموعه تنهمر كالسيل العرم، تبلل ثيابه، تنسكب قطرات دمعه فوق بتلات الزهور التي جلبها، فلا أدري هل تميتها أم تحييها، ينفضها بكلتا كفيه، يلوم نفسه ألف مرة ودميتي تسقط من يده، يعتذر، يتضرع، يناجي ربه، ثم يودعنا بعد وعده أن يأتي في الأسبوع المقبل بنفس الموعد ما لم يجد جديد.
قبل رحيله؛ يربت بيده النحيلة المنكمشة التي برزت عروقها فوق بابنا، تقترب أمي، تسمع همساته وأنينه تمد راحتها عساها الوصول، لا تهتز ملامحها رغم حزن كلماته؛ تبتسم، تتمتم هامسة:
- سنتقابل في بيتنا الجديد.
يتركنا راحلًا، أرتمي بحضنها بعد أن لمستني كلمات زائرنا، تربت عليّ بكفها الحنون، أسألها:
- لمَ لا يسمح لأبي بالدخول في كل مرة يزورنا؟
تجيبني بنفس ابتسامتها:
- لم يحن الوقت بعد، سيكون معنا ببيتنا الجديد؟
- متى سنذهب إليه؟
- قريبًا يا طفلتي.
- وكيف عرفتِ أنه أجمل من بيتنا؟ 
تربت عليّ هامسة لي ألا أصدر صوتًا يزعج جيراننا من حولنا، أكرر تساؤلي، تبتسم وهي تخبرني:
- هو بيت جدير بامرأة فارقت الحياة وهي تضع طفلتها ■