مصابيح الظلام

حين اجتاحني الحلم الجميل، تألقت في ذهني فكرةٌ تدفعني نحو الحياة، أن أكون قصيدةً في ذهن شاعر مغمور، أو رواية تشارف على الانتهاء في حاسوب روائيٍّ مشهور، لم يراودني حلم سابقًا، باغتني وأنا في أعتى أيام ضياعي وغربتي، أكملت عقدي الثالث مشتتًا لا أستدل طريقًا يبعث بداخلي البهجة سوى الركون إلى العمل، أفني أيامي مغمورًا في عمل شاق، لم أشعر باليأس مرةً واحدة بينما أكون منهمكًا بإصلاح إنارة شارع مظلم، فحين يضيء مصباح معطوب ويتضح طريق المارة تنتابني نشوة انتصار آنية، وتزهر في قلبي ياسمينات المحبة، لكنني حين أنهي عملي وأعود لمسكني تظلم طرقات عمري، في هذه اللحظة تحديدًا أدرك أننــي ضائع، مقطوع من شجرة باسقة، عشيــرتي كانت تحكم الدولة، أكلتهم السياسة واحدًا تلو الآخر، حتى بقيَ أبي من نسل قيادات بتاريخ طويل، لكنه استسلم للظلام وودعــني بتواطئ مع مفخخة أسفل محرك سيارته، كانت عائلتي كلها معه، ذهبوا إلى حياة أخـــرى وتركـوني أصارع أيامي. 
ليس أمامي سوى الانتظار، انتظار حبيبةٍ تحتلني على غفلة، أو صديق لا يغدر بيَ، هذه الحياة التي أتوقع أن أعيشها، أنا وكل البشرية، وإلّا، ما هو هدف الإنسان في الحياة سوى تكوين أسرة وبحث عن مجد؟ عن نفسي، لقد تخليت عن المجد، فقد أكل عشيرتي كلها، لكنني الآن على الرغم من ضياع المعنى يجتاحني حلم جميل. 
وعيت على الدنيا كارهًا للظلام، لذلك أصبحت كهربائيًا متخصصًا في إصلاح مصابيح الطرقات، وحين تشتد عليّ مرارة الوحدة ألجأ إلى النوم، عادةً يقف تدفق الزمن حتى أستيقظ على نغمة منبه الصباح، فأكرر أيامي بروتين ممل غالبًا ويمضي العمر، غير أن الحلم المباغت جعلني أعيد النظر بحياتي. 
«سماء مشمسة، والمصابيح التي أصلحتها طوال حياتي، على عكس وظيفتها تبعث الظلام في الشوارع! هرعت أتسلق الأعمدة وأزيل المصابيح، بمفردي أتخلص منها واحدًا تلو الآخر، أنادي على المُشاة بأن يساعدوني لكن حنجرتي لا تصدر أي صوت، استنفدتُ طاقتي كلها ولم أزل إلا عدةَ مصابيح لا تتجاوز عدد الأصابع! جلست على الرصيف أعاين الطريق، الشمس مشرقة والمصابيح تبعث حزمًا من الظلام، التفتُ خلفي وإذا بالأعمدة التي خلعت مصابيحها مزودة بمصابيح أخرى تبعث الظلام أيضًا! فأدركت أن محاولتي يائسة، وتملكني الغضب، لكنني في اللحظة الأخيرة سيطرت على نفسي وهدّأت من روعي، فكرتُ برويّة، قلت في نفسي: مادام الضوء أكبر من الظلام، ومادمنا نحن من وضعه على الأعمدة، فالسماء لا تستسلم أبدًا، وستبقى الدروب مضيئة للمُشاة مهما فعلنا». 
استيقظتُ على المنبه مسترخيًا هادئًا، قد يكون الحلم مرعبًا في بدايته، لكن تأويلي له جعلني أهدأ وأرسل  مباشرةً  نصّ استقالتي لمديري وأحزم أمتعتي وأسافر إلى غابة شاسعة، أعانق الطبيعة بحثًا عن ذاتي، علّني أجد مستقبلي في ضياء السماء أو قوة الطبيعة.