سُعَــال

تَحَلَّقَ أفراد الأسرةِ على مائدة الطَّعَامِ لتَنَاوُلِ وَجْبةِ الغداءِ في غيرِ وقْتها المُعْتاد، فشمسُ الأصيلِ بدأت تُغادِرُ بِصُحْبَةِ أَشِعَّتِها في الواجِهة الخَلفيّةِ للمنْزل، لقد تغيَّر كُلُّ شَيء، وتَغَيّرتْ مَعَهُ مواقيتُ الوَجبات. تجَمَّعُوا أخِيرًا على تلك المائدة الخَشبيّةِ المُزركَشَةِ المصْقُولةِ الصُّنْع، بعدما كَانوا مُتفرّقين في أرْجَاء المَنْزل.
 كان عليٌ منغمسًا في هاتفه، يُبْحر فيه لساعاتٍ طوال، هاتفٌ جديد حَظِيَ به بمناسبة الجائحة لَعَلَّهُ يَتَعَلّمُ عَنْ بُعْد. أَمَّا الأبُ الأربعيني، فَيَعملُ في هذه اللّحظة عَلَى ترتيب مَكتَبه الذي لا يَحْتاجُ إلى تَرتيب، المُهمُّ أن يجد لِنفسه عملًا مُسَلِّياً بعد إنجاز العَمَلِ الرَّسْميّ عَنْ بُعْد، إنَّه اليومَ، يَحفظُ كُلَّ الخُدُوشِ التي تَظْهَرُ عَلَى أبوابِ مَنزلِه وجدرانِه من شِدَّةِ تَمَلِّيهِ في كُلِّ شَيء، بَعْدَ مُدةٍ طَويلةٍ من الحَجْرِ الصِّحي.  كانت تلك المُدَّةُ بالنسبة للأُمِ المَوْلُوعةِ بالطَّرزِ على الثَّوب، كافيةً لكي تَكْتَشفَ أسْرارَ الطَّبخِ، والتُّرْكِيّ مِنهُ أسَاسًا.
بَينما كان أفرادُ الأسرةِ على أُهْبَةِ التِهَامِ وجْبَةِ الغَداء، المُكَوَّنةِ من سمــكٍ مقلي، وباذنجان مشوي على الطّريقة التُّركيّة، وفلفلٍ حَار، كان عليٌّ مُنتَشِيًا بهَاتِفه الجَديد، لم يَتذَوَّقْ طَعَاماً مُنْذُ البَارحَة، هاتفُه شَغَلَهُ عن إسْعَادِ بطنه. يَنْظرُ أحياناً في المجموعةِ «الواتسابية»، يَجِدُ عناوينَ المُحَاضَرَاتِ الجَديدةِ التّي يَبْعَثُهَا أصْدقاؤُه، يقرأُ منها عُنوانًا أو اثنين فيَنصَرف، ليبدأ في الدَّردَشَة مع زملاء الفَصْل. الإمكانَاتُ أمـَـامَهُ اليومَ متاحةٌ، هاتفٌ جديدٌ من نوعٍ رفيع، شاشَتُهُ عريضةٌ نَاصِعةٌ، تعبئة بِقِيمة خمسين درهمًا. كان هذا الأمرُ حُلمًا مؤجّلًا بالنِّسبةِ له وغيره من الطَّلبَة إلى عَهْدٍ قَرِيب.
التحَقَ عليٌّ بالمَائدةِ بَعدَمَا شرعَ الجميعُ في التهامِ الطَّعام، بدأ بالفُلْفُلِ على غير عَادَتِه، اشْتَدَّ سُعَالُه، فَرَّ الجميعُ من حَولِه. إنَّها علامَة من علامات كُوفِيدْ 19 الجديد. الأمُّ هرولَت إلى الغُرفةِ الأخرى بمعية الفتاة الصغيرة سَامِيَّة ذات الخامسة من العمر، لا تعلم بعد ما يَجْري، لا تَعرفُ عن الوبَاء إلا الاسم، الأَبُ صَعد إلى سَطحِ المنزل، شَرَعَ بمُناداة عون سُلطة بملءِ شدقيه:
- يا عَون سلطة، يا عون، مُصيبةٌ بَيْنَنَا، مُصِيـــــبَة..
عبّاس عون سُلطة، يملك دراجةً نارية حمراء، صوتها مُمَيَّزٌ عن غيرها من دراجات الحي، يَرْتَدي سروالًا فضفاضًا من الثّوب، وقميصًا أبيضَ، حِذَاؤُهُ أسود لامِع، يُسْمِعُ طَقْطَقَةً أثناء مَشْيِه، يَلْزَمُ حَيَّ الزُّهور كثيرًا، وكان دائمًا على أُهْبة الاستعداد لأيِّ طارئ، تتم المناداة عليه مرات ومرات في اليوم الواحد، إنّه أولُ من يَعْلَمُ بالمُشْكِلات التي تحُلُّ بالأسر في حَيّ الزُّهور.
 سَمع عباس صيّاح الأب محمود لأنّ مكتبه الصغير لا يبتعد عن منزل سي محمود، فَحضر لِلتَّو:
- ما الذِّي جَرَى يا سي محمود؟
- ولدي أصَابَه الوبَاء؟
- وَلَدُكَ أصَابَ الوباء...
تنهد قائلًا:
- سي محمود، قُلْتُ لكَ للمرَّة الألف إنّ وَلَدكَ لا يَلْتَزمُ المُكُوثَ في البيتِ، والشَّارعُ في هذا الزّمن مُحَرَّمٌ عَلَيهِ وعَلَى أقْرَانِه، لقد أصَابَ الوبَاءَ.
- زادكَ اللهُ رِفعةً سي عبَّاس..
- سي محمود، لحظة...
أخرج العون عبّاس هاتفًا صغيرًا من جيبه، أجرى اتصالًا هاتفيًا، وبعد مُدة قصيرة، حضرت سيارة إسعاف تَحْمِلُ رقم 141 بلون أَحمرَ قانٍ على الجَانِب، إجراءاتٌ مشدَّدةٌ، فريقٌ طِبّي بلباسٍ أَبْيَضَ، أقْنِعةٌ شَفَّافَةٌ، مُنَبِّهٌ غير مألوف. حُمِلَ عليّ إلى المشْفَى بتُهْمَةِ السُّعال، أُجْريت لَه فُحوصاتٌ وِفقَ مَعاييرَ دقيقة. وفي اليوم نفسِهِ، علم الجميعُ أنَّ سُعالَه كان بريئًا.