- بواسطة يوسف خليف المشهداني
- الدولة سورية
كان صباحُ القريةِ مبتسمًا، السماء نقية زرقاء، والهواء عليل ولطيف، أما الصمت فيخيّم على القرية الصغيرة، لا أسمع سوى حفيف الأشجار ومعانقة الأغصان لبعضها...
الأطفال يمرحون بالطين ويلعبون ترتسم على شفاههم براءة الطفولة وحلم المستقبل وإشراقة يوم جديد.
الربيع صادق في مواعيده ولا يتأخر أبدًا، شجر المشمش لبس ثوبه الجديد وازدان به، وأصبح كسرب فتيات في فساتين الزفاف البيضاء.
كل شيء في هذه الحياة يتغير، يتجدد، يزول إلّا قريتنا مازالت متمسكة بذاك الطراز التقليدي القديم، حتى المزابل والقمامة مبعثرة في أطرافها.
هذه البيوت يتكئ بعضها على بعض بتداخل عشوائي وأحيانًا يوحي القوة، فالبيوت كطلاب قريتنا حين يذهبون جماعات إلى مدارسهم يضعون أيديهم بأيدي بعض قبل أن يبعثرهم الزمن ويشردهم. ورغم تسارع الزمن فإن القرية هي القرية، ومشهد تساقط الجدران لا يختلف تمامًا عن سقوط أبنائها.
الزمن استطاع السيطرة علينا كثيرًا وأصبح يضايقني وأكرهه، والسماء بدأت تتعكّر، والأشجار أصبحت عقيمة، حتى النهر في مجراه تغيّر.
النساء فقط ما زلن يتجمعن عند أطراف البيوت ويجلسن على كراسي قد صنعنهن من الحجارة، والشباب أصبحوا شبه مفقودين، ماتوا، تشرّدوا، تحاربوا، لم يبق من ماضيهم سوى ملاعب كانت تجمعهم، وذكريات كانوا ينقشونها على جذوع الشجر وجدران البيوت.
تذكرت صلاة العيد كيف كانت في قريتنا، إذ كنا ننتظر الخطيب أن ينهي خطبته بسرعة حتى يتسنى لنا معايدة بعضنا البعض وتبادل التبريكات والتهاني، فنطيل الوقوف أكثر من وقت صلاتنا ودعائنا، باختصار كنا نحب بعضنا.
في هذا المساء الذي لا يختلف عن غيره، كنت أتجول بين أزقة القرية لا أرى شيئًا ولا أسمع، سوى صوت الصمت المخيّم، وبعض قناديل الإضاءة الخافتة التي لا تنشر مع ضوئها سوى البؤس والضيق في زوايا القرية، في هذا الجو فوجئت بشابٍ لا أعلم حاله وما الذي أصابه، بدأت أخمِّن وأتكهَّن، اقتربت منه لكنّه ابتعد، وشرع ينادي بصوت يشوبه الغموض والحزن حتى تحوّل ذلك الصوت إلى ألم نفد لداخلي، ويقول:
عُد يا أخي عُد يا أخي، ويردف بهمهمات لا أفهمها ولا أستطيع تحليلها وتفسيرها، ويكمل قائلًا:
عد كالسندباد ككل مرة ولا تنقطع، فتتساقط من عينيه دموع حارة كثيرة، فلا أحد يردّ عليه أو يجيب، أخوه الوحيد تركه وغادر حيث الذهاب دون رجعة، ذهاب من دار إلى دار، هكذا ينتقلون بكل سهولة ويُسر لا يشفقون علينا، فهذا الرحيل يترك شرخًا واسعًا في قلوب الأحياء، وأبوه وأمه اختطفتهما المنية منذ فترة طويلة أيضًا، سنعتاد ذلك، لأن الفقد والموت والزوال سُنَّة في الكون، وخاصة بهذه القرية، حيث أصبح مستمرًا...
يصرخ ويندب ويرثي أخاه بكلمات موجعة ومؤلمة. ترك أخاه يصارع الأهوال والمخاطر.
أكملت المسير وقلبي مازال معلقًا عند ذاك الشاب المفجوع أمشي في طريق كثير التعرجات كثير المطبات، أخطو وأقف لأتجنّب العثرات، طريق معبّد رملي هذا الذي أمشي فيه، ولا يتبادر في ذهني وذاكرتي سوى صور الذكريات التي بدأت تتداعي من كل ناحية، وتطرق ذاكرتي مرة بهدوء وأخرى بصخب عنيف عنيف، تلك الصور أيام عشناها، فما بقي منها سوى الذكرى رغم مرارتها وقسوتها، هذه الصور تتداعى في جوف ذاكرتي ولا تتوقف.
في أحد أطراف القرية سمعت صوتًا لا أكاد أنساه، أمشي نحوه بخطى متسارعة متهالكة، أظنّها أسرع من دخول الصوت إلى أذني، أكاد أتعثَّر لأنّ عقلي هجر رأسي، حيث أصبح كقريتي، كلما اقتربت من ذاك الصوت زادت حدته في مسمعي، وبدأت أشعر أني لا أجهل هذا الصوت الذي امتثل في ذاكرتي.
من بعيد رأيت رجلًا عجوزًا، أبيض الشعر، هزيل الجسم، ظاهر الابتسامة، مستتر الغضب، تشققات أصابعه جافة خشنة، ملامحه لا تختلف عن حالنا.
هذا الرجل يدير مطحنة للحبوب لا حياة قريبة منه، ولا أناس حوله، ألقيت التحية عليه وردّ وباله مشغول، حتى أنه لم يهتم لحضوري ووجودي كثيرًا.
جلست جانبه ولم يتوقف عن عمله، يعمل بصمت وحزم متلازمين. سألته:
- لم كل هذا الدقيق والقمح؟
أجابني متفائلًا: يا ولدي إذا توقفت المطحنة نامت الحياة ومات الأمل.
سألته مسرعًا: وأي حياة يا عم؟
أجابني بعد صمت طويل، حتى أنني ظننته سيتجاهل سؤالي، وقال:
- ألم تشرق الشمس اليوم؟ قلتُ: بلى.