خادم المال

يبتلع الشخير همسُ الخادم المنتصب عند الباب وهو يقول: «سيدي، الساعة تشير إلى الثانية عشر والنصف ظهرًا»، تنهد واغتاظ وسار إليه، هش على رائحة العرق الحائمة حول أنفه، ثم دنى منه ورجّ كتفه وسَحبه من سباته العميق، وسرعان ما وقع ما كان يتلافاه، وثب بسرعة واضطجع على السرير واتسعت حدقة عينيه متأملًا في جدران حجرته، يقضي الثواني الأولى حين يفيء للحياة بهذه الطريقة الغرائبية، والتي جعلت الخادم يتجشم مهمة إيقاظه. 
- ما الأمر؟
يجيب الخادم بينما يربط جانبيّ الستارة:
- لديك اجتماع بعد نصف ساعة مع المهندس حمد آل صالح، لمناقشة ملاحظاته حول ما كتبت له. 
أرخت الشمس خيوط ضوئها في أنحاء الحجرة، وأضاءت أثاثها الخشبي الآيل للسقوط، سرير وخزانة ملابس مستعملتان، ومرآة متسخة، وحوض لنبتة مصفّرة، وسجادة حمراء صغيرة الحجم تتطاير الخيوط من أطرافها.
- ينتاب مفاصلي الإرهاق وجسدي معيى بالكامل، ورئتي لم تشفَ من السعال حتى اللحظة.
- سيدي ليكن في علمك، صباح اليوم وصلت إلينا طلبات عديدة من عملاء جدد ومتنوعين، بيد أن شهرتك لن تستمر طويلًا، أما البارحة فاتصل بي اللواء جابر خلدون، إنه يسأل عن التعديلات التي رفعها لك بشأن كتابه، مضى على طلبه ثلاثة أسابيع.
- ألم تتعب من عملك؟ ضحيت بأربعين سنة لغاية المال، وكرستها لشخص لا تعرفه. 
- المال... تذكرت، صاحب البناية يطلب الإيجار منذ أسبوعين. 
- اللعنة، هل تستمع إلى حديثي؟
- مروان، اسمح لي أن أناديك باسمك، واغفر لي ما سأقوله، توقف عن التشبه بالبلهاء والكسالى، اشتغل والدايّ في هذا العمل طيلة حياتهم، وها أنا أتحرى نضوج ابني لأرحل إلى بلدي قبل لقاء أبي وأمي، وأشتم نسيم الحقول وأصغي إلى ترانيم الفلاحين لأول مرة، أترغب أن تتقمص دور المتمرد بهذه التصرفات؟ افعلها يا سيدي، وبعد شهر من قرارك ستضجر من الملل، وتبحث عن حبل تشنق به نفسك وتخرس صوت السآمة، لن تجد الحبل وستطفق إلى المتجر، وعند المحاسب ستفتش في جيوبك عن المال، وتكتشف بأنك مفلس.
- تعجز عن فهمي كلما حادثتك، ولأجل استكمال النقاش عليك أن تهش على تلك الصفحة البيضاء.
- أين؟
- على الجدار، في الخلف هناك وراءك. 
-  ولكن... ليس هناك شيء يا سيدي، إذن لا تتناول حبوب الذهان، هكذا نخسر كلانا.
- سأعترف لك، أنني أكتب قصة عن شخص لا تنتظره مسؤوليات، الأدب يحتاج إلى مثل ذلك.
- لن تطعمنا القصص، أرجوك اكتب لهم ولا تكتب لك.
- أتطلب مني تأجير أصابعي؟
- هذا ما تفعله دائمًا.
تمغط مروان وترجّل عن السرير، وأخيرًا تصلّب بملامح يسودها الاستياء والامتعاض، وأشار بسبابته نحو الخادم قائلًا:
- أيها العاصي، أترجو مني رهن قدراتي إلى الثخناء ذوي الرقبات الممتلئة؟ إنني أغبطك كثيرًا، أتعلم لماذا؟ لأنك تخدم شخصًا مغايرًا، وأنا أخدم المتشابهين لغاية المال فقط، وأتحمل ثرثرتهم وهم لا يفقهون في الكتابة ولا القراءة، ولكن من المؤسف أن ترى آرائي محض جنون، لا مشكلة، كل من يخرج عن السياق هو شاذ، رغم أنكم لا تدركون متى كان السياق إنسانيًا.
توجه إلى النافذة وأغمض عينيه بوجه أشعة الشمس، وأسدل الستارة وهو يتهدج:
- لا أنوي إعادة أصابعي في الأغلال، على الأقل ليس اليوم ولا الغد، دع روحي تطوف أين تشاء بحرية مطلقة، وربما، لا أعدك بطبيعة الحال، قد تعود كما تتمنى ■