شيطان الشعر

ككل الصباحات، لا يروق لي فنجان القهوة إلا وأنا متكئة على حافة الشرفة، أراقب الضوضاء وصخب النهار وهما يحلان محل سكون الليل وصمته. كانت الحياة قد بدأت تنبعث في كل أركان الحي بعد أن أرخى الموت الصغير قبضة كفيه. كانت الدكاكين قد شرّعت أبوابها طلبًا للرزق وكانت الحركة الدؤوب للمارة قد انطلقت، كل يحمل على كتفيه ما قسمت له الحياة من تعب وعناء مغمسين بالأمل. وكنت أنا، رفيقة الحنين وضحية الأدب والشعر. نسجت الأقلام حولي خيوطًا لم أستطع قرضها، وأحاطتني بتعاويذ عجزت عن فك طلاسمها، وأحالت حياتي جحيمًا لا تنطفئ نيرانه المستعرة إلا إذا اختفى بياض الأوراق وسكنت الحروف السوداء مكان الفراغ المغادر إلى غير رجعة. 
كمن تلبّسه الجن كانت تتلبّسني الأفكار، وتظل تدور في رأسي حتى يغمى عليّ من فرط الدوران ولا أفيق من غيبوبتي التي لا أعرف لها سببًا ولا دواء إلا برغبة ملحة في أن أفرغ ما في جوفي، فلا أرتاح بعد طول عناء حتى ألفظ تلك الأفكار أخيرًا وقد صارت حروفًا ثم كلمات ثم جملاً متشابكة، فنصوصًا ذات معنى. 
زارتني جارتي يومًا بحثًا عن أنيس تجاذبه أطراف الحديث بعد أن أثقل صمت السنين كاهلها. كانت قد جاوزت السبعين من عمرها، انحنى ظهرها وتقلص حجمها ولكن الحياة عوضتها بنظرة ثاقبة وبصيرة نافذة. استرعى انتباهها شحوب وجهي، نظراتي الزائغة، رجفة يدي وأوراقي المتناثرة كيفما اتفق. وفي لحظة بوح بحثًا عن شيء من المواساة، حكيت لها ما كان من أمري. لم ترتسم على وجهها علامات الدهشة المتوقعة ولا حتى بانت لمحة استغراب على ملامحها التي احتفظت بهدوء أكسبتها إياه السنين والتجارب. نظرت في عيني مشفقة ثم قالت وقد أخفضت صوتها كأن هناك من يتلصص علينا ويسترق السمع، إنه شيطان الشعر يا صغيرتي، طرق الباب يومًا عليك ولم تترددي في استقباله وقد تمكن منك، فصار لك سيدا وصرت له خادمة مطيعة. كنت قد سمعت الكثير من الحكايات عن هذا الشيطان من قبل ولكني كنت ولا زلت أعتبرها خرافات من نسج الخيال وجدت لها مكانًا ضمن حكايا الجدات. ولكن جارتي المسنة أقسمت عليّ أن أصمت حتى لا يؤذيني أكثر. وكأني مسيّرة لا قرار لي ولا أملك حق الاختيار، وجدتني أرافقها إلى بيوت تضوع منها رائحة البخور وقد غطت أرضيتها جلود الحيوانات وزينت حيطانها أجسادها المحنطة في مناظر تقشعر لها الأبدان. ثم رأيتني بعدها، وأنا المثقفة التي تزين الشهادات مكتبي ولا يذكر اسمي إلا مسبوقًا بحرف الدال، رأيتني أشرب أعشابًا لا أعرف لها اسما، أضع حجابات تحت وسادتي، أرش مياها في زوايا البيت وأقبع كالمشدوه في جلسات طرد الأرواح التي أكون أنا محورها. 
اليوم، وبعد سنة من الجلسات والطقوس وبعد أن غادرني شيطان الشعر إلى غير رجعة كما أكد لي آخر شيخ زرته، ها أنا أنهض من غفوتي لأشرب قهوتي التي أعدت تسخينها للمرة العاشرة وأنا متكئة على شرفتي، أراقب الليل وهو يرخي سدوله حولنا وقد حل سكون الليل وصمته محل صخب النهار وضوضائه. كانت الدكاكين قد أغلقت أبوابها وبدأت الأنوار تطفأ في المنازل التي عاد أصحابها ليريحوا أكتافهم من العناء والتعب المغمسين بالأمل. وكنت أنا، رفيقة الحنين وضحية الأدب والشعر، قد صار في جعبتي عشرة حكايات جديدة.