ذاكرة الساعة الأولى

 المكان الذي كنتُ فيه لا يشبه الأماكن المألوفة التي يعرفها البشر القادمون للتو من الأرحام! ولكنني وجدت نفسي ملقى هناك وعمري ساعة واحدة! لا يمكنني نسيان الروائح الكريهة والذباب الذي ظل يعبث بوجهي طويلاً! لم أكن قادرًا على فعل شيء، وحتى البكاءُ كان صعبًا للغاية! حلقي جافٌ وعضلات فكي متيبسة! وجسدي العاري كفأر صغير يتخبط مثل ورقة شجر في مهب الريح! لم أستطع فتح عينيّ، كان جفناي ملتصقين، وعندما حاولتُ فاجأني اللون الأسود قادمًا من كل الجهات، لم أعرف هويتي بعدُ ولا جنسي، ولكن حدسي المنبعثُ من قلبٍ عمره ساعة على الأرض يخبرني أنني ذكرٌ! تمامًا مثل ذكر البط وذكر البوم! لكنَ إناث الحيوانات لا تلقي صغارها، هذا ما فهمته من علامات الكون وإشارات الله في هذه الغابة الموحشة.
المكان المظلمُ الذي احتضنني كان أرحم من البشريين الذيْن مارسَا مغامرة الحب المزعوم ثم اختفيا عند أول ظهور لي! لا أتذكر وجه أمي أو بالأحرى وجه المرأة التي حملتني كرها في رحمها! لقد كنت ذنبا لا يغتفر وعارًا لا يمحى، هذا ما همست به امرأة عجوز لها بينما كانتا تبحثان عن أقرب حاوية نفايات يدسان بها ثلاثة كيلوغرامات من الخطيئة! 
كانت القطط تبحث عن وجبة طعام نتنة ودسمة! ولكنني لم أغرها بالاقتراب مني بل لم أشكل احتمالا واحدا في قائمة الوجبات! لقد عافتني وذهبتْ. لست ناقمًا على الكون ولا على السيدة التي تركتني وحيدًا هنا! وأخرجتني من الظلمات إلى الظلمات! بل أنا شاكر للقط الذي تأملني ومضى! وللكلب الذي مسح على رأسي بلعابه ومضى! وللمتسولة التي رأتني ثم تجاهلتني ومضت! وأنا ممتنٌّ لحارس الغابة الذي انتشلني بعد يومين من الجوع والعراء وحملني إلى بيته وجعلني طفله الخامس! كان بيته دافئًا رغم البرد وواسعًا رغم ضيقه وجميلاً جدًا رغم بساطته! أتذكر أول لحظة حملتني فيها زوجته وأطعمتني! كنتُ أفتح فمي ليتدفق الحليب الدافئ إلى معدتي وأفتح قلبي ليتدفق الحب إليه.
 إنني اليوم أحرس الغابة كما فعل أبي لعقود قبل رحيله وأقبل كف أمي كل صباح فتشرق شمسٌ في قلبي فأتحرّر من رهاب الظلام ولكنني في كل مرة أرى حاوية نفايات أقع أرضًا وأبكي! متذكرا الساعة الأولى على الأرض!