محاولة أخرى

تعثرت وسقطت أرضًا، شكرت حظي الجيد الذي دفع الرصيف لتلقّفي؛ فالسقوط على الأسفلت أكثر إيلامًا وعواقبه وخيمة إذا ما كانت الإشارة خضراء، شكرت حظي مرّة أخرى إذ لم تُحلّق حولي أيّ تيارات هوائية لتحول بيني وبين لملمة بعض أوراقي التي تبعثرت على الأرض إثر سقوطي.
في حقيقة الأمر كان ذلك كل ما طالني من حُسن الطالع طوال أيام عديدة مضت، فمنذ أن قررت أن اعتزل بريدي الإلكتروني وأحمل روايتي وأدور بها على دور النشر وأنا أُقابل بالرفض تلو الآخر، «إذًا لم يكن هناك خطب في التواصل عبر التكنولوجيا الحديثة!» هكذا قلت لنفسي عندما تلقيت كلمات الاعتذار واحدة تلو الأخرى، مؤلمة هي بدرجات متفاوتة حسب طبيعة المُلقي؛ فهناك من يقولها بشماتة، وآخر ينقلها بأسى، وثالث بشفقة، ورابع بعجرفة، قُساة هم البشر!! 
قد لا أجيد الكتابة، فروايتي السابقة لم تُحقق الحد الأدنى من المبيعات التي قد تغطي التكلفة، لمت دار النشر على الدعاية المتواضعة، والطباعة الرديئة، والأخطاء المطبعية، والتوزيع المحدود، نفضت عني هذا الخاطر ولمت نفسي على عدم التدقيق عند اختيار الدار والاكتفاء بمجرد طبعة أضيف بها سطرًا لسيرتي الذاتيّة.
لم أحبذ أن أقسو على نفسي، فبين عشرات المسابقات التي قدمت بها فزت بواحدة في طفولتي من الإدارة التعليمية بمدينتي الريفية، لا تزال أمي تزين بشهادتها صدر الحائط فوق أريكة الصالون المغلق في بيتها المتواضع، ورغم تماوج وبهتان ختم النسر فوق التوقيع البوهيمي لمدير الإدارة التعليمية، إلا أنها ذكرى جيدة تتفاخر بها ست الحبايب حتى الآن؛ ربما لأنني أنجزتها تحت سقف بيتها وأنا آكل من خيرات يديها، أذكر عندما فزت بجائزة صالون القاص الكبير الأدبي منذ بضعة أعوام وعرضت عليها استبدالها بالجديدة رفضت في إباء كأنما هي من فازت بتلك الورقة القديمة المصفرّة وليس أنا.
رفعت رأسي لأتأكد من لافتتة دار النشر، أقف على حافة الاكتئاب المرضي؛ لا أستطيع منع تدفق الأصوات في رأسي مع كل موقف أمر به، مع كل منظر أراه في الشاشات، مع كل حديث لزميل أو صديق، أكتمها لأني لا أستطيع أن أخرج هذه الأصوات بطبيعتها شفاهةً للبشر، ولا أستطيع حبسها داخل رأسي، الحل الوحيد هو عمل معالجة وإسقاط لها على شخصيات رواية أو أحداث قصة، ولكن تواجهت مع حقيقة أكثر مرارة؛ فاحتجاز هذه الشخصيات داخل ورقة بدفتر أو درج، وربما ذاكرة تخزين وميضية يجعلها تلاحقني، وأراها في كوابيسي تصرخ لتنتقل لعقول أخرى عبر العيون، سأصاب بالشيزوفرينيا أو الاضطراب ثنائي القطب في أحسن الأحوال.
تجاهلت الفأل السيئ عندما وجدت المصعد معطلًا، ارتقيت الدرجات الرخامية بحرص، خوفًا من الانزلاق على حافة إحداها المبريّة من كثرة مصافحة النعال، وأمام الباب تريثت تلقائيًا لأعدّل هندامي نافضًا عنه بعض ذرات الغبار الخيالية، وأمرر يدي على شعري فأساوي خصلات فقدتها منذ سنوات، قطعت عليّ روتيني ضحكة رنانة مصاحبة لسيمفونية إيقاعية لكعب حذاء سيدة فاتنة، عبرت من أمامي بصحبة الأديب الدكتور ليفتح لها باب المصعد ويودعها: «شرفتينا يا هانم»، ترد بضحكة أخرى فيبتلعها المصعد ويهوي بها لباطن الأرض، يمسح الرجل عن جبينه عرقًا لم أدر متى تفصّد من وجهه الذي لم يغادر التكييف سوى لحظات تجاوزني بعدها عائدًا لعقر داره.
أخرجت من جيب بنطالي نوتة صغيرة، فتحتها ثم سحبت قلمي الجاف من جيب قميصي، وبمساعدة فمي استبقيت غطاءه بين شفتي ومددت يدي لأشطب اسم وعنوان الدار من بين القائمة ■