نبضات قلب

انتشر الخبر بين الناس أن أطباء المستشفى الكبير قد اخترعوا جهازًا يستطيع تصوير نبضات القلب ونوعها ووزنها العاطفي. وعلى عتبة بيتنا كانت جارتنا أم العبد تعدّد لأمي عن ظهر قلب ما وجدوه في الصورة عن قلبها: قالوا لي معك ثلاث كيلووات حزن، وست كيلووات حب، ومدري شو غضب …، الدكتور قال لي قلبك أجمل قلب وصلنا للآن:

- أنا محمد…

رئيس الجامعة مقاطعًا: أين براءة الذمة؟

  • ها هي!
  • أين عدم المحكومية؟
  • ها هي!
  • أين صورة القلب، وعليها أوزانه العاطفية؟
  • لم يطلبه منّي أحد، سأحضره غدًا إن شاء الله.

لم يكن الوصول إلى المستشفى صعبًا، فقد كانت الطريق إليه خالية من السيارات. كان المستشفى كله صامتًا ساكنًا لا حراك فيه، وعلى غير العادة كانت أسرَّة الطوارئ في استقبالي، وتراكض الممرضون من حولي كأنهم في مسلسل أطباء الذي كنت أتابعه في طفولتي، وبسرعة عجيبة أنهوا معاملتي الورقية التي كانت تستغرق نهارًا كاملًا.

ومن غرفتي كنت قادرًا على سماع بعض الهمهمات والتمتمات والوشوشات التي كانت ترتفع حينًا وتنخفض أحيانًا مع تزاحم أقدام الممرضين والأطباء على باب غرفتي.

قال أبو محمد، صاحب الدكانة الذي تزوج اثنتين، إن هذا الاختراع غير معقول وغير مقبول ومستحيل، ولا يمكن لأي جهاز في الدنيا أن يعرف وزن عاطفتي.

وقالت لي وردة صاحبة مجلة «سيدتي أنا معك» إن الكلام عن جهاز جديد يستطيع قياس وزن العاطفة هو نوع من الخرافات!

أما مؤذن مسجدنا الكبير، فانشغل بالتفتيش عمّا يثبت حرمة جهاز مثل هذا، لأنه - كما قال - يخوض في نوايا الناس، ويقترب من الخطوط الحُمر، وحين سمع الإمام هذا الخبر اكتفى بالنظر إلى منبره في المسجد.

وتساءلت جارتنا أم علي وكأنها تواجه كابوسًا: معقول أقدر أعرف مدى حبّه لي ويعرف شو بقلبي؟

فردَّت جارتنا أم سعد شامتة: آه، وبتقدري تعرفي متى خفّ حبه ومتى زاد، وكمان بتقدري تعرفي متى دقّ قلبه لغيرك!

أم محمود وهي ترمي نظراتها بعنف إلى جارتها أم سعد: "والله إنو اختراع كويس ومنيح وابن حلال، خلينا نعرف القرعة من أم قرون".

أما أمي فكانت تراقب حوارات الجارات عن الجهاز الجديد وفي عينيها كثير من الكلمات المكبوتة. ومع أن الأطباء كلهم أكدوا ضرورة إجراء الفحص القلبي، وبيّنوا للناس أهميته وفائدته، إلا أن غرفة الفحص بقيت خالية، فمنذ دخول الجهاز إلى الخدمة وهو مركون في غرفته لا يقربه أحد إلّا إذا جُرَّ إليه جّرًا.

الطبيب لممرضة كانت تحوم حول سرير مريض كثرت آهاته: شو رأيك أفحص قلبك على الجهاز الجديد؟

 الممرضة، بصرامة، وهي تحاول إيجاد شريان تصل به الجلوكوز: لا لا، أنا راضية بنبضات قلبي.

الطبيب وهو ينظر نظرات قاسية إلى المريض اللاهث الذي تخرج من عينيه حشرجات ثقيلة لأنفاس رجل فقد قدرته على اتخاذ قرار ما: اسمع يا صاحبي، لن أكذبك، قلبك مليء بالحقد والكُره والغضب والغيرة، وهناك ألوان من الغيرة غير مفهومة، وهي التي نخرت عينيك، وقتلت جسدك وها هي ستنتزع روحك.

قالوا لي اجلس هنا فجلست، خذ نفسًا فأخذت، قل: آه، فقلت، اصرخ فصرخت، اضحك فضحكت. كانت الغرفة الزجاجة تشفّ عن عيون كثيرة تحاول معرفة ما سيقوله قلبي!

 - المستشفى اليوم فاضي؟

لم يجب الطبيب عن سؤالي، واكتفى بمتابعة سير أوزان نبضاتي وتوزعها على مسارب كثيرة بألوان مختلفة

قلبك عجيب، أنت شو بتشتغل؟

- أنا معلم، ونجار طوبار، وحداد، وكاتب، وشاعر!

- لم يقل الطبيب شيئًا.

 - طيب ليش ما في ولا مريض في المشفى؟

- كم عمرك؟

- 50

 - متزوج؟

 - نعم، وعندي ولد وبنتان! ما قلت لي يا دكتور هل يمكن لهذا الجهاز معرفة وزن العاطفة عند الحيوانات؟

نظر الطبيب مرّات كثيرة إلى الجهاز، وهو يوزع ألوانه بلا توقُّف، ويسلسل أرقامًا كثيرة متتابعة تسيل سيلًا، ثم نظر إليّ وخرج من غير أيّ تعليق.

كانت عيناي تتقاسمان زوايا الغرفة التي ازدانت بعبارات تحضّ على فحص القلب ومعرفة أوزانه العاطفية:

"زِن قلبك قبل موتك». "مَن عرف أوزان قلبه العاطفية حمى نفسه»، «معًا نحو قلب متوازن".

واستطعت من مكاني بين يدي الجهاز تمييز وجوه كثيرة تتناقش وتتهامس وتتجادل. وانتشرت على أطراف باب غرفتي كلمات متقاطعة كثيرة أذكر منها: أمن، دولة، سكون عاطفي، بيات عاطفي، تشرنق عاطفي، الشرطة القلبية، مَن، في، هل، كيف، المشرحة… وفي غمرة متابعتي للكلمات المتقاطعة التي كانت تتقاطع مع بثّ أغنية جسّ الطبيب نبضي التي مرّت من أمام عيني، فأضحكتها دخلت مجموعة من الأطباء، ومن غير سلام ولا كلام وقفوا عند الجهاز المربوط بجسدي، وصاروا يتهامسون من جديد بصوت عالٍ.

 - ما قلتم لي أين الناس، أين المرضى؟

خرجت مجموعة الأطباء من الغرفة مسرعة، بعد أن تفحّصت الجهاز المربوط بي، وسمعت من غرفتي أحدهم يقول: هناك خلل ما!