«صاحب القهوة»

صانع القهوة
بائع القهوة
صاحب القهوة،
مات...
أخبروني أنه متألم جدًا، والمسكنات لا تسعفه براحةٍ أو نوم، يعتصر من وجع أمعائه ويصرخ مناديًا الرحمة؛ فحلّت.
ناداها ولبّتّ!
عاش وحيدًا ورحل بمفرده، أربعة عقود لم تكن كافية في رصيده، لا ولدًا من صلبه يدعو له بظهر الغيب، ولا زوجةً مكلومة تبكيه، كان كشك القهوة مركبه والسوق شراعه، والزبائن المارين بين المحلات وأصحابها التجار؛ كل عائلته، إلى أن حارب السرطان ربيع عمره وأرداه في الفراش.
رحل عمي أحمد سريعًا، وعمّ الحزن فضاء المدينة التي وارته في الحضور والغياب. أُعلن الحداد في السوق ثلاثة أيام، أطفأ التجار الأغاني في محلاتهم واستبدلوها بالقرآن، واختفت رائحة البن من كشكه البسيط، صلى عليه عشرات الآلاف، ودعا له الأبناء والبنات في كل حي وضاحية في المدينة التي لا تنام... وبقي الببغاء وحيدًا في بيته يناديه: بائع القهوة... صانع القهوة... صاحب القهوة، وما من مجيب...
بعد أيام من رحيله، ذهب أصدقاؤه لجمع حاجياته من منزله بغية التبرع بها، وفوجئوا بالببغاء الذي ما زال ينادي خليله بحزن، فردوا عليه: مات!
في أول زيارة لي للبلاد بعد أشهر، تعمّدت المرور بمنزله وإلقاء نظرة أخيرة من بعيد، أتحسّر على أيام قضيتها في الغربة، حجبت عني ملامحه وسرقته مني دون فرصة للوداع...
أطلت عليّ من الشباك جارته وأمّ صديقه، الحاجة أم صالح، استقبلتني في منزلها بعدما لاحظت القهر الذي يسكن نظراتي «أريد أن أسلم لكِ الأمانة، أنتِ الوريثة الوحيدة للراحل أحمد»، قالت أم صالح.
وما الأمانة؟
دخلت الحاجة الخمسينية إحدى الغرف على مهلها وأحضرت منها قفصًا به الببغاء الأخضر النحيل؛ «هذا طير عمك»، قالت بهدوء... اقتربتُ منه ونظرت إليه نظرة استغراب، لقد نسيت أمره.
حدّق بي بخوف ونقنق بصوت متصل: صانع القهوة، بائع القهوة، صاحب القهوة، مات...