- بواسطة يوسف مدحت
- الدولة مصر
ولجت ليلًا من مدخل الزقاق الضيق الكائن في طرف بلدتنا بخطوات مترددة غير عالم بما ينتظرني داخله. أبنيته القصيرة، والمتهالكة حاصرتني من الجانبين. كنت ككشاف يشق طريقًا يسيره الإنسان لمرته الأولى. مرويات أجدادنا أحاطت ذلك الدرب بالهلع لذا هجر عبوره منذ زمن بعيد. ليس ضيقه، وإظلامه فقط هما سبب ذلك الخوف، ولكن لتلك الزومات التي ترتفع منه عند هزيع الليل سارقة من بلدتنا أمان النوم؛ أصوات نشعر بها تنخلع من دواخلنا.
قررت ذلك اليوم أن أستجيب لتهوّر المراهقة، يدفعني فضولي لأعرف سر إصراره أن أصله من ذلك الطريق. كنت في كل مرة أكسر وصيته؛ فأذهب لداره من طريق السوق الواسع. مسافته أقرب، كما أني أتلذذ فيه بصخب الحياة. محاله التي تحف بالطريق من الجانبين مكتظة ببضائع تحمل أطياف الألوان. النسوة يتعاركن مع البائعين، تخالط أصواتهن الحادة حناجر الرجال الغليظة التي تلبد الأجواء بالغضب، وتنذر بالشر. تتبخر همومي وأنا أتابعهم، يفور جسدي بغليان مثير. في منتصف الطريق يقع دكان الحلوى. يجتذب عيني جسد سلوى الملتوي مستندًا لبوابة الدكان. تغمز لي؛ فأتوقف. تصعد نحو الطريق بقدّ متمايل. أنتظر حتى تصل للزاوية، ثم تنحرف نحو أحد الأزقة. أسير كالأسير المجذوب خلف آثار أقدامها على الطريق المترب. أجدها في انتظاري. يسرقني الوقت وأنا معها.
حاولت خداعه أكثر من مرّة. حينما أصله متأخرًا، أخبره أني جئته من الدرب الضيق. يرمقني في حنان بضحكة جانبية قائلًا:
- سر في الطريق الذي تحب، ولكن لا تكذب.
يتصاعد قلقي، فأسأله بأنفاس مبهورة خوفًا:
- من أين عرفت؟ هل ترسل ورائي جواسيس! هل تتعقب خطواتي؟!
يقهقه عاليًا، ينتطر حتى تنتظم أنفاسه، ثم يخاطبني بصوت يبدو خارجًا من أغوار كهف عميق:
- الدروب التي نسيرها تصيرنا، تخرج ما في قلوبنا، أو تسكنها، تطهر أرواحنا، أو تلصق أدناسها علينا.
يميل في جلسته، يقرب أنفه مني، قائلًا بثقة:
- التصق جسدك، وأنت قادم بامرأة. عطرها غزل خيوطه أسفل جلدك.
أنكمش خوفًا، أخفض رأسي خجلًا من شبابي، ومهابةً لشيبته.
ترامى إلى مسامعي صوت يدق بإيقاع مضطرب. حاولت أن أطرد شبح الخوف من رأسي معللًا الصوت بحركة الفئران في الخرابات، أو ربما صوت زخات المطر الذي بدأ يتساقط. ولكن الصوت متقطع بإيقاع خطوات بشرية. لم يكن هناك فائدة من الالتفات للوراء، لن أرى شيئًا، سأحدق مباشرةً في عيني الظلام. كانت الخطوات تقترب مني رويدًا. فكرت في الإفلات بالركض للأمام، ولكن الطريق الترابي صار وحلًا، وخطواتي الثقيلة صرت أنتزعها انتزاعًا وكأني على وشك الغوص في باطن الأرض. زاد ارتباكي، وشعرت أني محاصر في فخ. ابتل جلبابي بماء المطر يخالطه عرق الخوف. جيوش من النمل زحفت أسفل جلدي، تراخى جسدي، ومادت بي الأرض. وقع الخطوات لم يرحمني، لاحقني كالأجل. في لحظات، انصهر عقلي، سالت ذكريات، وحضرت من الماضي أشباح قديمة. لم أكن أعلم أن الحساب يقع قبل الموت، طافت بمخيّلتي أعوامي، ذنوبي المؤرقة، الأحلام المؤجلة، جروح التئمت، وكسور مازالت تؤلمني. كنت غارقًا في ظلمة الماضي، حينما انبثق خيط من نور يبشر بالخروج من الزقاق الضيق. حاذتني خطوات الغريب، وأحاطني من كتفي، فالتفتّ مذعورًا. لدهشتي كان هو؛ معلمي الذي أقصده. همس لي بصوت مطمئن، وهو يحاول أن يبعث بيديه الدفء في جسدي المرتعش:
هنيئًا، تطهرت من الخوف.