«قلم وممحاة»

لم يكن بمقلمتي آنذاك غير قلم أزرق جاف ممضوغ الذيل، أنبوبه الداخلي الممضوغ أيضًا لم يتبق من ذخيرته سوى القليل من المداد الذي يغطي في أحسن الأحوال وبالكثير من التفاؤل صفحة من الكتابة، أما من حيث المنطقِ فالواضح أنه لن يتحمل أكثر من سطر واحد ولا يكلّف الله قلما إلا ما حمل من مداد، فالأسطر الأخيرة التي لقيَ قلمي شرف كتابتها كانت بخط متقطع غير متصل، والنفخ في أنبوبه يوضّح أن الأخير أجوف، ينذر بقدوم جفاف مرعب، سيكون من الأجدر الآن أن أفكر في طريقة للحصول على قلم آخر، لأن فرضية شراء آخر غير واردة قطعًا، فالدرهم التي ستكفي لشراء آخر عملة نادرة.
السرقة، لا يجب علي حتى أن أفكر بتاتًا في أمر كهذا، فأنا رغم كل هذا أحصّل بثبات وعن جدارة واستحقاق الرتبة الأولى في كل قسم من مختلف المستويات الابتدائية التي مررت منها، ولن أسمح للقب كالسارق يدنّس هذه الهيبة التي عملت عليها بكد تحت ضوء الشموع المحتضرة في جوف الليالي، سأحاول أن أفكر جديًا في استعارته من معلمتي، فهي طيبة القلب على ما تبدو والواضح أنها لن ترد طلبي هذا.
لكن الخجل يغالبني فكيف أفعل، سأؤجل التفكير بالأمر إلى ذلك الحين، فلا داعي لأن أشغل بالي والقلم لازال يخط ولو بخط متقطع.  
ربما كان وراء قضمي المستمر لذيل أنبوب قلمي الداخلي مشكل عصبي، أو في الغالب إحساس بالجوع، فأعض الأنبوب موهِمًا معدتي ومُمَوّهًا إياها... لا أعلم ما كان السبب تمامًا، لكن الذي أوقنه أنه سلوك يومي يبعث بالراحة.
لم يكن هذا القلم، الوحيد بمقلمتي المتسخة العفِنة، بل كانت تجاوره ممحاة في الأصل كانت بيضاء اللون برائحة أقرب لرائحة الشكولاتة، لكنها الآن متسخة بدرجة أقل قليلًا من المقلمة، أعلم يقينًا أن دورها الأساسي يتجلى في مسح أخطاء قلم الرصاص أو الأقلام الملونة، لكن... لا أقلام لي، لا ملوّنة ولا أقلام رصاص، الرصاص يرعبني أصلًا وهذا سبب داعم للسبب الرئيسي، وهو أنني أبلغ من الفقر عتيًا، ولا دراهم لي لسد الخصاص بمقلمتي، وبالتالي فقد كان دور ممحاتي هو إعارتها لمن في حاجة إليها، وقد كانت عبارة «الممحاة لدى حمزة، خذها منه» تبعث على الإحساس بالرضا داخل قلبي، فكنت أعيرها باهتمام بالغ لمن يملك أخطاء بقلمه على طبق من ذهب، بعجرفة بريئة، وكأن صوتًا بداخلي يقول «ما فائدة قلمك إن لم تكن ممحاتي»، وبالتالي كنت أحس أن قيمتي داخل القسم رغم ندرة الأدوات بداخل مقلمتي الشديدة العفَن، تُعادل قيمة كل التلاميذ ممن يملكون مقلمات مليئة شيئًا ما.