«عوالم محتملة»

يأتيني في كل مساء ليقص عليّ ما استنفره من تفكيره وكيف أنه غير قادر على كبح ذلك التفكير الدائم تحت وطأة الليالي المظلمة.
فيبدأ قائلًا: تمر بي تلك الصورة الغريبة في كل مرة أضع فيها رأسي المحملة بالأفكار علي الوسادة، وهي صورة فِراخ صغيرة تقفز لتمر من بين ما يشبه إطار قديم، لتصنع لنفسها واحدة تلو الأخرى، صورة لحظية تمثلها هي ثم تمضي إلى الجانب الآخر للإطار، وبعدها تقفز تلك الفِراخ من فوق مجرى مياه ضئيل جدًا لتمر إلى الجهة الأخرى، وتختفي في تلك الزروع الموجودة على الجانب الآخر من القناة، ثم انتقل إلى نفسي - حرفيًا -، تلك التي تقف بالقرب من هذا المشهد خافضة أجنحتها في صمت خارجي لا يدل إطلاقًا على الضجة والأسئلة الداخلية في رأسي التي لا تكاد تنتهي! لماذا أنا الذي لا أستطيع العبور؟ لم لا يكون لي الحق في تحقيق حلم الصورة اللحظية؟ وغيرها الكثير مما دار برأس نفسي آنذاك.
- هذا وأنا لازلت لم أرفع رأسي له لأبدي أي رد فعل. وحتى عندما استوقفته سائلةً إياه بدهشة - من الوصف المتخيل في رأسي مما يقصه -: متى تتوقف هذه التخيلات؟
- رد قائلاً: ربما لا تكاد تنتهي حتى تتمعض شخصيتي الحقيقية لا المتخلية تمعضًا خفيفًا يثنيها قليلاً عن التفكير في هذه الصورة المتخيلة، ويأخذها لحظيًا إلى خارج عالم الفِراخ ذاك إلى عالم غريب تملأه العيون، ولكنها ليست بعيوني، وإنما هي عيون الأغراب، ووجوه الأغراب التي ما عادوا واضحين لها، لعيني بعد أن ضعف بصرها وفقده مركزيته البصرية.
- وكان رده ذاك غريبًا قليلًا بالنسبة لي، فقد كان على عكس المتوقع ثابتًا في رده غير متلجلجٍ أو متوترٍ، وكأنه من تكرار مروره بينها قد ألفها ورتب الكلمات في رأسه.
- ثم أردف قائلاً: ولكن ربما في هذا العالم يكون هناك حل لمشكلة عيني، فهناك طبيب العيون! على عكس الآخر الذي لا يكاد يكون فيه حل لمشكلة مروري من الإطار الصغير!
- ومرة أخرى لا أرفع رأسي لأبدي أي رد فعل وأراه وهو ينتقل بين تلك العوالم. لم أسأله هذه المرة ولكنني أحسست به صامتًا في ألم، وهو في صمته يخالجه شعور مؤلم ما أكاد لا أتبيّنه. وفي غمرات تفكير كلانا يبدأ بكلامه عن الذكريات - ذكرياته - وعلى عكس سمة التفصيلية عنده التي قص بها قبلًا فقد تكلم بتشويش عن معانِ الخذلان والقسوة التي كانت في طفولته، وكأنه لا يريد أن يذكرها أو يتذكرها. 
وأخيرًا وبعد أكثر من انتقالة لتلك العوالم الخفيّة بداخله وبشكل متكرر، تستقر نفسه استقرارًا غريبًا، فهو قد نام فجأة من كثرة التفكير. وهنا، كنت قد رفعت رأسي لأرى ذلك الراوي كثير الكلام والمشاعر المختلطة لأجده أنا!
ولكني - ومع ذلك - كنت قد ارتحت بعد كل ذلك فأنا الآن - وبعد دخول نفسي لعالم النوم - أستطيع أنا الدخول لعالم الأحلام الجميلة أحيانًا والغريبة أحيانًا كثيرة ■