«تذكرة موت»

صمت محرك القارب فجأة في عرض المحيط، وسط لعنات الربان الذي حاول بإصرارٍ تشغيله من جديد، ولكن القارب بمن فيه صمد صامتًا لم يفه بكلمة واحدة، صمتًا ميزت معه صوت ارتجاف قلبي عن قلوب المهاجرين الباقين، لم يكن ارتجافًا بسبب الخوف بل كان ارتجاف الروح من البرد، هكذا أقنعت نفسي.
تلفتت حولي فلم أبصر سوى الظلام الحالك اللّهم تلك الأضواء البعيدة التي جاءت من أقصى المدينة.
- مدينة بهذا الحجم لم أدرِ كيف لم أجد عملًا في ضواحيها؟ قلت بصوت خافت.
- أو حتى مستقبلاً بين أزقتها؟ بلغني رد بين الجموع.
وفي وسط ذلك السكون الرهيب، جال طيف والدتي في ذاكرتي... فسقطت دمعة من عيني أسقطت معها تلك الذكرى الكئيبة.
استحضرت حينذاك ذلك المشهد المهين في رواق المستشفى... حيث يستعجل الطبيب الوصول إلى مكتبه وخلفه ذلك الشاب الهزيل الذي يستنجده بالله أن يواصل متابعة حالة والدته. وسريعًا يأتيه الرد عندما يتسرّب الطبيب إلى مكتبه ويصفع الباب في وجهه باحتقار.
هل سبق له أن بكى قبلاً بتلك المرارة؟ هو بذاته لا يدري لكنه بكى ساعتها أمورًا شتى... بكى حظه وضعف حيلته، بكى ذلك الرقم الضخم الذي يفترض به أن يكون تكلفة عملية والدته... بكى بمرارة حتى استبكى، ولكنه حين دنى من الغرفة التي ترقد بها والدته مسح دموعه بكفيه ودسّ بين شفتيه ابتسامة أمل خطفها من ماضٍ بعيد،ٍ ثم وجّه نظراته للزجاج الذي ترقد خلفه تلك التي جاءت به للحياة، وبنفس النظرات الحانية التي كانت تمطره بها دومًا نظرت إليه هذه المرة أيضًا، لكنها كانت - نوعًا ما - نظرة مختلفة لم يتكهن عمقها حتى تجمّدت عيناها واستقرت عليه... أزاح عينيه عن الزجاج لعلّه يزيح تلك الفكرة التي لا تزال عالقة في ذهنه إلى الآن... تلك لم تعد غرفة بل صارت نعشًا!
لم أتذكر ما حدث بعد ذلك الأمس، ما تذكرته فقط هو أن ظلام تلك الليلة خيّم بقسوة وأن ما بكيته ليلتها لم يكن دمعًا بل كان دمًا! وأن الدهر انقضى بسرعة حتّى انقرضت معاني الحياة قبالتي لأجدِني اليوم حجزت تذكرة موتٍ على متن قوارب الأمل، وهي تشقّ بنا أمواج بحر يحمل معه - أحيانًا - رائحة دم خفيفةٍ... لا أدري على من ألقي اللّوم، أَأُلقيه على نفسي؟ أم ألقيه على الأقدار؟ أَألوم حظي؟ أم أشكو لله ذلك المسؤول الجبّار؟