«الجُبُّ»

- أين أنا؟
لا أستطيع تذكُّر ما حدثَ معي قبل دخولي في هذا الظَّلامِ، ولا أستطيع تحريكَ جسدي.
لكن أشعر بشيءٍ ما في يدي. إنها... إنها ملعقة، وأصابعي قابضَةٌ عليها، لكن مِن أين أتت؟
آه، تذكرتُ! 
كنتُ أتناول الطَّعام في بيت عمي، فقد استيقظْتُ يومَها ووجدتُ أمي تحضِّر حقيبةً لملابسي وبعض ألعابي أيضًا، ثم بدلَتْ لي ملابسي، وأخبرني أبي أنني سأمكث في بيت عمي لبعض الوقت مع عائلته وابن عمي الكبير، وسيأتي ابنُ عمي الصَّغير ليمكث هو هنا في بيتنا مع أخي الكبير.
وعندما سألته:
«لمَ كل هذا؟».
 أجابني:
«ليستمر نسلُنا يا ولدي»!
لم أفهمْه، لكن يقيني بأن أبي دائمًا يفعل الصَّواب لعائلتنا منعني من مناقشتِهِ.
كان القلق يكبر على وجه أبي كل يوم منذ بدءِ الحرب على مدينتنا. لا أعلم لماذا كان قلقًا إلى هذه الدَّرجة، فهي ليست أولَ مأساةٍ تمرُّ على مدينتنا، لكن يبدو أنه كان يعلم شيئًا مختلفًا هذه المرّة. 
ذهبنا إلى بيت عمي، وتركني هناك بعد أن أخذَ ابنَ عمي الصَّغير. شعرتُ بالحزن قليلًا لابتعادي عن بيتِنا وحنيني لأمي، لكن الجميع في بيت عمي حاولوا أن يُسَرّوا عني؛ فحكَتْ لي جدتي بعضَ حكاياتِها، ولاعبَني ابنُ عمي الكبيرُ كما يلاعِبُ أخاه.
وعندما جلسْنا إلى المائدةِ ليلًا، سمعْنا أصْواتًا هائلة تدوّي في أماكِنَ قربنا في المدينة، هرع على أثَرِها كلُّ مَن في البيت، وسمعتُهم يقولون كلماتٍ متداخلةً، مثل: صواريخ، طائرات، قنابل...
قاموا جميعًا من على طاولة الطَّعام، وتفرقوا في أرجاء البيتِ يطفئون الأنوار. نظرتُ إليهم في رعبٍ وحيرة أراقبهم وهم يركضون وسَرَيان الأصوات المخيفة في الخارج يركض إلينا أسرع منهم.
لم أدرِ ماذا أفعل؛ فقلتُ لنفسي: «أفعل كما يفعلون»!
فقمتُ من على الطَّاولة وأنا لا أزال أحمل الملعقةَ في يدي، قابضًا عليها من الخوف لأطفئَ الأنوار في اللَّحظة التي تجمعوا فيها، وبصوتٍ واحد هتفوا باسْمي لأنضمَّ إليهم وأرمي بنفسي بين أحضانهم؛ فنظرْتُ إليهم وكانت نظرة الفزع على وجوههم هي آخِر ما رأيْتُ قبل أن أطفِئ المصباحَ، ومن بعدِها لم أرَ نورًا، فقط سمعتُ صوتًا رهيبًا كالرَّعد فوق رأسي، وفي أقل من لحظة، وجدتُ نفسي أهوي في الظَّلام مع صرخاتهم المرعبة، ثمّ..ثمّ.. لا أذكر! 
هل هذا السُّقوط العنيف هو المَوْت؟
لكن، لماذا أظنُّ أنني ميت وليس لديَّ دليل؟
ولكنني لا أستطيع تحريكَ جسدي، فأُمي قد أخبرتني أن الميت لا يتحركُ ولا يشعرُ. ولكني أشعرُ بالملعقةِ في يدي، وبصداعٍ عنيفٍ يصاحبُه ألمٌ أعنفُ يضربُ رأسي.
أنا لستُ بميتٍ إذن؛ لكنني أشعر أن أثقالًا على جسدي وصدري تضَيِّقُ عليَّ أنفاسي. هل هي التي تمنعني من الحركة؟ ولماذا يحيط بي كل هذا الظَّلام؟
إذا لم أكن في قبر، فأين أنا؟ أأكون... 
يا إلهي! ومنذ متى؟ وإلى متى سأبقى هنا؟
ألن يشعرَ بي أحد؟ أستصبح هذه الأطلالُ قبري وأنا حيٌّ؟
فجأةً، تناهَتْ إليَّ أصوات تنادي أسماءَ سكّانِ البناية، فأسماءَ أفراد عائلة عمي واسْمي أيضًا، ومن بين الأصواتِ المناديةِ، أسمعُ صوتَ أبي وابنَ عمي الصَّغير.
أنا هنا! 
لا أستطيعُ أن أنطق؛ الأثقالُ التي لا أراها تمنع صوتي من الخروجِ. صرختي مكتومةٌ، لا قريبَ يسمعُها ولا بعيد يشعر بأنينها.
لماذا أصواتُكم تبتعد؟ 
لا، لا تذهبوا بعيدًا! هل ستتركونني وحدي في هذا الجُبِّ؟ هل ستبخسون ثمني إلى هذا الحدِّ؟ 
لا تفقدوا الأمل لإيجادي. 
عودوا! أنا لا أزال حيًّا! أنا لا أزال حيًّا!  ■