«كسرةُ خبز»

ذات حُلْم ليليٍّ، ألجأَتْني ظروفٌ لا أستحضر ماهيَّةَ تفاصيلِها إلى فندقٍ ماخوريٍّ، وقفْتُ قبالته مترددًا، لكن لا خيار؛ فقد سبقَ وأن جبْتُ الحيَّ من قبلُ، وأخذ مني الجوعُ، كما أن الوقت متأخِّر ولا يبدو المكان آمنًا لمزيد من السَّيْر. 
تحسسْتُ مكان النُّقود في جيبي، ثم دخلْتُ! 
«لا أعلم لماذا لا أُصلح الثُّقوب في جيوب سراويلي»، وفكَّرْتُ أنني ربما أتجنب وضع الأشياء فيها وحسب، وربما لأنَّ الجيب السّليمَ يبدو أشبهَ بكيس حبوبٍ منتفخٍ.
 قصدْتُ طاولةً في الركن الأيمن، وجلسْتُ إليها بعدما أبعدْتُ الكرسيَّ الفارغ، إذ لا رغبةَ لي في مجالسةِ غريبٍ أو غريبةٍ.
طلبْتُ شيئًا للعشاء، ثم لبثت أنتظر وأنا أتملى في هندسة المكان وأتفرس في وجوه الزَّائرين. خُفُوتُ الأضواء يظلِّل المكان أكثر مما يضيئه، وللموسيقا هنا رَجْع بعيد كأنها بقايا فرح ما! 
خُيِّل لي أن أغلب النَّاس هنا تائهون مثلي، إذ لا يدرون - مثلي - كيف انتهوا إلى هذا المكان، لكنهم انتهوا إليه؛ لذلك تبدو أغلب الملامح غير حقيقيَّة، وكأنها أقنعة تخفي وراءها شيئًا ما، ملامح مضطربة تذكِّرك بمَن يضيع منه شيء، فلا يبحث عنه على مرأى من الآخرين، بل يبحثُ خفيةً، مُتظاهِرًا بالانشغالِ بعملٍ آخر.
وبعد لأْيٍ، لفتَ انتباهي شخصٌ يجلس قبالتي غير بعيد، كان قد درسَ معي أيام المرحلة الثَّانوية. 
«أسامة»! ناديْتُه، وأيقنْتُ أنه هو عندما تطلَّع نحو مصدر الصَّوت، وجفل لرؤيتي، وبدا عليه الارتباك. أشرْتُ إليه أن تعالَ؛ فبدا أنه لم يعرفني، أو دفعَهُ الإحراج، جراء كونه في ذلك المكان المشبوهِ، إلى إنكار معرفتي. لا أعرفُ إنْ أصبْتُ الاسْم وأخطأْتُ الشَّخصَ، فقد يتشارك الشَّبهَ أربعون، ويتشاركون- ربما- الاسْمَ عينَهُ. أشرْتُ إليه ثانية، فتململَ ثم غادرَ، فرجعْت إلى التَّفسح في مكاني الذي لم أفارقْهُ أصلًا. قُدِّمَ إلي «طاجِن» تنبعثُ رائحتُه الشّهيّة من بخار الوعاء الفخاري العميقِ القعرِ، ولكن من دون ملعقة، فرحتُ أبحث عن طريقة ألتهم بها الطّعام. ولما لم أجد، صرختُ للنّادل الذي اختفى: 
- كُنْ خلوقًا، وأعطني، على الأقلِّ، كسرة خبز!