«أذان»

على كرسيه المعتاد، أمام شاطئِهِ العارِم، جلس وحدَه هذه المرة، لبُرهة من زمن؛ تمر به لحظة تأمُّل فلسفيَّة، يطرح أسئلته التَّافهة المعتادة، أسئلة احتار في الإجابة عنها رغم انعدام الفائدة منها، أسئلة يتبادر إليه دائمًا أنها لن تجد إجاباتٍ دقيقةً وصارمةً، مهما تمكَّنَ من العِلْم، ومهما استعمل علمَ الدُّنيا من عَصْر الفراعنة.
مثلًا: كم خطوة خطاها على وجه البسيطة؟ كم نبضة نبض قلبه؟ كم فكرة استوعبها؟ كم مرة ضحك وكم مرة بكى؟ 
تدور في رأسِه هذه المترادفات المتضادَّات، فلا يلتفتُ يمينًا أو شمالًا، بل تسبحُ عيناهُ بعيدًا كمن يبحث عن شيء ضاع فلا يهتدي إليه سبيلًا. 
أخيرًا، لا يجد مفرًّا من إشعال سيجارتِه اللَّعينة التي اعتادها هي الأخرى كلَّما أراد الهروب من إشكالاتِه المطروحةِ ووساوسه العاتية، فيصهرها مع روحه الحزينة وأنفاسه البائسة، يقتات عليها وتقتات عليه، يرى رمادَها حياته الميتة التي بعثرَها منذ لحظة كدخانِ السِّيجارة تمامًا.  
وينتهي به المطاف؛ ليسأل نفسه السُّؤالَ البديهيَّ الذي لا يُنسى عينَهُ: «متى صرْتُ واعيًا»؟ ويمر على جميع الفلسفات: «الكانطيَّة» أو «الوجوديَّة»، «الماركسيَّة» أو «الواقعيَّة»، «فلسفة نيتشه» أو «العدَمِيَّة»، فلا تشفي غليلَه واحدةٌ، ولا تجيبه بجزء من ذَرَّة، بل تزيد الأمور تعقيدًا، والطِّين بلة، وتنحو به منحى الانحراف. 
 فجأة، يحيا الإحساس فيه، فيتعجب من قلبه إذ يخبره بإحساسٍ طاعِن في القِدَمِ: «لقد وعيت من أول نبضة لي»! ويتعجب أكثر حين تأتي إشارة من عقله بأن لا يصدق هذا الإحساس؛ فيشبّ صراعٌ بين الاثنين يتحولُ إلى حرب ضروس من الأحاسيس الصَّادقة ربما، تقابلها أفكار فتَّاكة مفنِّدة.
يحس بالتَّذبذب بين عقله وقلبه، وبأن شيئًا ما ليس على ما يرام، هل يصدِّق عقله أم قلبه؟! سيُجنُّ حقًّا!
يوبِّخُ نفسَه هذه المرة، يعاتبها، يقسو عليها، تسارعُ الأحداث لا يمنحُه، بل لا يمنُّ عليه بلحظة جميلة، فيحرمه من عيش حياةٍ أكثر قيمةً وجمالًا، وهذا التَّسارع يخنقه، فلا يترك له مجالًا، ولا يكاد يلتفت إلى الخلف إلا متحسرًا على فوات الأوان.
 هو على موعدٍ مع العذابِ النَّفسيِّ كل لحظة، وفي اعتقاده، هو كفَّارةُ ذنوبِ الوساوس اليوميَّةِ التي تطرق وتختلط بنفسه وليس له شأن ولا دخل في ارتكابها، فيتمتم: «جحيمٌ بعينِهِ النُّزول إلى الأرض، جحيمٌ بعينِهِ ثمنُ الجنَّة»!
  ويفكرُ في حلٍّ سريع للخلاص أكثر فعالية من طرح الأسئلة والتَّأمل والسِّيجارة، فيسمع صوت الأذان المطال: «الله أكبر»! 
يفهم الرِّسالة، وينطلق إلى المسجد.