«المحطة»

أخيرًا وصلت الحافلة... دنت من الرصيف... ثم وقفت في توازٍ مع لافتة الوقوف... تقدم الرجل السبعيني نحوها بخطى متثاقلة... فتح له السائق الباب فصعد... حجز تذكرته... ثم جال ببصره في وجوه الركاب يبحث عن مقعد شاغر فلم يجد... فقصد شابًّا... بدا له من هيأته دون باقي الجالسين متمتعًا بصحة جيدة... ابتسم في وجهه وهو يخاطبه:
ـ  لو سمحت يا بني... هل يُزعجك إن تنازلت لي عن مكانك... رحمة بعجزي وهرمي؟
ـ لكنني أراك بصحة جيدة!
ـ ما كنتُ لأطلبَ منك التنازل لي عن مقعدك لو كنتُ كما تقول.
ـ وأين ذهبت قوتك يا عمي؟
ـ لا شيء يدوم يا ولدي.
ـ كان عليك أن تُبْقيَ منها شيئا لِكِبرِك... توقُّعًا للمفاجآت... أو تستَقِلَّ سيارة أجرة... أرأف بحالك.
ـ أنا جندي سابق... ومعاشي هزيل... لم أركب سيارة منذ سيارة الجيب العسكرية... تعلم أن الجندي يستنفد كل شيء من أجل الوطن... فلا يُبْقي على شيء.
ـ الحروب تصنع الحقد يا والدي... ما كان لك أن تكون جنديًا.
ـ صرتُ جنديًا ليعلم المستعمر أن في البلاد رجال... ثم ناسبتني الجندية... فاستمررت بعد خروج المستعمر... ألم تكن بلادنا مستعمَرة؟
ـ بلى... كذلك كانت... ليتك تركتها مُستعمَرة... المستعمر يأتي بالحضارة والجمال... يأتي بالفكر والحرية.
ـ نعم إنه يبني حضارته على حضارتك... وفكره على مبادئك... وحريته على استعبادك.
ـ وها أنتَ ذا لم تجنِ شيئًا... بل إنك لم تجد حتى كرسيًا تضع عليه مقعدتك.
كان باقي الركاب واجمين... أخرستهم جرأة الغلام... لكن العجوز كفاهم مؤونة الرد.
ـ شكرًا يا ولدي... لقد أعطيتني اليوم درسًا في المروءة سأستظهره أمام أولادي وأحفادي.
ـ لكن لماذا اخترتني دون الآخرين... اختر شهمًا غيري... لعله يُسعِفك بمكانه.
ـ لقد تفحصتُ وجوههم... وليس من الأدب أن آخذ مكان امرأة أو عجوز مثلي... كان اختيارك أقرب للعدل... لكنني أسأت التقدير.
ـ لكنني أنا أيضًا أريد أن أجلس بجانب صديقتي... أليس هذا سببًا كافيًا لِتجنحَ عني؟
ـ بلى... إنه أقوى الأسباب على أن البلد لازالت في حاجة إلى التحرير.
ـ لقد فات الأوان على هذا الكلام؟... لقد تأخرتم كثيرًا في تحرير البلد يا عمي.
ـ لقد كان الخونة يعطلون تقدمنا... كانوا منشغلين بالبيع والإنجاب... فمات مَن مات وعمَّر من عمَّر.
ـ من حسنات الخيانة الإبقاء على بعض الذكور حتى لا ينقطع نسل الأمم.
ـ أوَ تظن أن الخائنَ حيٌّ؟
ـ ما دام يُنجبُ فهو حي... وماذا عن شهدائك؟ لقد ماتوا... شهيد يعني ميت.
لاحظ الشيخ أن الغلام مُشْبَعٌ بالثرثرة الجوفاء... لا يصلح لندائها عاقل.
ـ نعم لقد ماتوا... ماتوا لتعيش أنت وغيرك... ماتوا دون أن يندموا... وحتى بوجود أمثالك... فهم لم يندموا.
كان السائق يخفف من السرعة وهو يضغط ضغطًا خفيفًا على الفرامل... وبعض الناس يتقدمون نحو الباب الأمامي استعدادًا للنزول.
بعد فترة صمت قصيرة... رفع الشاب رأسه إلى العجوز وهو ينظر إلى عينيه الحادتين قبل أن يخاطبه:
ـ حسنًا يا عمي تفضل... اجلس مكاني... سأنزل في المحطة القادمة.
ـ لا بأس يا ولدي إنها محطتي أنا أيضًا.
ونزلا معًا ■