«شجرةُ الذكرياتِ العتيقة»

كانت لدينا شجرة بيذام وارفة الظلال، اشتراها أبي من أحد مشاتل العاصمة حين كان يعمل في الحرس السلطاني، غرسها في وسط ساحة بيتنا الذي تشرف غرفه بأبوابها ونوافذها الخشبية على ساحة البيت.
حين ولد إخوتي كانت الشتلة في مثل عمرهم صغيرة وقصيرة، بيد أنها سبقتهم زمنيا فكبرَتْ وطالَت حتى لامسَت أغصانها المورقة سطح البيت. أما أنا فلا أذكرها إلا شجرة عملاقة يمتدُّ جذعها المتشقّق إلى الأعلى مصافحًا السحب، وتتداخل أغصانها في بعضها البعض كما تتداخل آثار أقدمنا في الطرق الترابية، أما أوراقها الخضراء الداكنة فتشبه ريش الطواويس فلا تسمح بمرور الضوء من خلالها إلا لِمَاما.
حين كبرتُ اتخذت البيذامة صديقة لي، بحتُ لها بكل أسراري الصغيرة، أعانقها طويلاً كلما سافرنا، وأمنع إخوتي من نحت خلجاتهم القلبية على لحائها. اتخذتُ أغصانها الصلبة مسكنًا لي كما تتّخذها قطة بيتنا منامًا، كانت العصافير تأوي إليها حزينةً بغنائها الشجي آناء الغروب، وتهرب منها فرحةً بتغريدها الطربي آناء الشروق.
ذات يوم قرّر أبي أن يهدم بيتنا العربي التقليدي، ويبني بيتًا إسمنتيًا جديدًا بقواعد خرسانية وبلا ساحة تتوسّطه، قرّر أبي أيضًا أن يقطع شجرة البيذام؛ لأنها ستعيق البناء، وتَحُدّ من مساحة الأرض. وقفتُ ضدَّ قرار أبي هذا، وحين جاء العمّال لقطع البيذامة وقفت أمامهم وصرخت بأعلى صوتي: ستقطعون أطرافي أولًا قبل أن تقطعوا غصنًا من أغصانها، كانت عيناي تبرقان بحدّة وصرامة؛ فأكبر أبي موقفي هذا، ومنع العمّال أن يقطعوا شجرتنا العتيقة، وبدا أنه تخلَّى عن هذه الفكرة بِرمّتها، وقال: سنجد حلًا آخر بالتأكيد. 
بعد مرور شهر على هذه الحادثة فاجأنا أبي برحلة إلى العاصمة، في ذلك الزمان لم يكن متاحًا لنا إلا رحلة واحدة فقط للعاصمة خلال العام، لكنَّ أبي قال إنه حصل على مكافأة مالية في يوم المتقاعدين، وإنه يمكننا الذهاب إلى العاصمة لرؤية البحر، والتنزّه في الحديقة العامة، وزيارة ملاينة الملاهي.
رجعنا من تلك الرحلة كأننا ولدنا من جديد، قضينا طريق العودة بسرد قصص السحرة والمغايبة، والتصقنا ببعضنا من شدّة الخوف، لكنَّنا حين وصلنا إلى بيتنا لم أجد شجرة البيذام في مكانها، لم يكن لها أدنى أثر، كأنما ضربها إعصار مدمر وحملها معه. 
امتنعت عن الطعام أيامًا، ووقفت في مكانها مادًّا ذراعيَّ على اتساعهما كأنما أصبحت شجرة بيذام أخرى، حاول أبي انتزاعي من مكاني فتساقطت دموعي كأنما أسقي بيذامتي الراحلة، كان أشدّ ما يؤلمني أنها ظلت طوال ذلك الشهر تؤمى إليَّ وتشير إلى اقتراب ساعتها، ظننتُ أنَّ ذلك بتأثير اقتراب فصل الخريف، لكنَّها كانت تودّعني حزينة على الفراق. اصفرّت أوراقها واحمرّت وتساقطت بكثرة كما لم تتساقط من قبل، كانت تبدو أشبه بشجرة عجوز محطمة مستقبلها مرهون بحطّاب عتيد.
بعد أيامٍ على تلك الحادثة جاءت جرّافة وهدمت بيتنا القديم الجميل، وبدأ العمّال ينساقون لبناء البيت الجديد، وبدا أنَّ كلَّ شيء انتهى، وأنَّ مرحلة جديدة بدأت في حياتنا، لكنَّ ذكراها الغالية ظلّت باقية في عقلي، تزورني في أحلامي المسائية، وتلقي بظلالها الباردة على لهيب حياتي الشاقة، أتسلقها في أحلام يقظتي، وأخاطبها كلّما ألمّت بي محنة، ظللت وفيًا لها في مخيلتي، وظلّت أجمل شجرة تعرفت عليها في حياتي.
حين كبرتُ وتزوجتُ، وأصبح لي بيت خاص يطلّ على حارتنا القديمة، فاجأتُ أبنائي الصغار بشتلة بيذام ابتعتها من أحد مشاتل العاصمة، غرستها بصحبة الأطفال في وسط بيتنا، وظللتُ أسقيها من معين الذكريات التي لا تنضب.