«اضطراب»

استيقظت يومًا لا أعرف مَن أنا. يخاطبني الناس فلا أفهم ما يقولون، وكأنهم يتفوهون بلغة لا أعرفها. أما عقلي فيخاطبني بلا كلمات، يصرخ وتبطحه العواصف ويئن من ثقل الظلام. يحاول الخروج من رأسي فيؤلمني، وحين يهدأ يبكي، يتذكر كيف كان وكيف أصبح فينكسر حزينًا.
تغير كل شيء حولي. عشر سنوات من عمري وأكثر باتت رمادًا. اليوم لم تعد تجرؤ أذني على سماع نشرة الأخبار، يختنق صدري وتدور بي الغرفة مع الرتم الرتيب لإذاعة الخبر تلو الآخر، واللهفة التي كانت تتسلل إلى أطراف أصابعي حين ينفجر الحدث العاجل خمدت تمامًا، بل ماتت. اختفت أرقام كل المصادر من هاتفي، وجلس شخص آخر على كرسي مكتبي في الجريدة، تخلص من شاليّ الفستقي الذي كنت أثنيه على ظهر الكرسي، ونصب لنفسه عرشًا لصياغة مقالاته.
بعدما سلمت بما حدث سحبني الصمت وجرّني من أرجلي. مررت بجسدي على كل النصوص والصور، ولكنها لم تتلطخ أو تهترئ. كانت كاملة وناصعة، لا يمكن تجاهلها. صعدت متهالكة إلى سريري، وسقطت في بئر من الظلام. أيام وأيام. ابتلعني اليأس ولم أقاوم. وحين أخرجوني جاهدت أفكاري بلا رجاء، أخبرتها في وهن إن كل من أرى لا يركض نحوي بالسلاح، ولكنها لم تسمعني. 
لم أصدق أحدًا في البداية حين أخبروني بما جرى لي. قلت لنفسي إن ذاك قمة العبث. لا يمكن أن يحدث لي ما أكتب عنه، فأنا أعرف ما أقوم به جيدًا، أحمل تحت ذراعي سنوات من التدريب وعلى صدري اسم جريدتي الكبيرة، أجلس بكوب القهوة مع زملائي نسخر من الساسة ونتنهد على «عامة الناس» ونسب مروجي الأخبار الكاذبة، الكل يتغنى باحترافية القلم وذكاء الصورة وشجاعة الفكرة، وبالطبع كنت أستطيع التمييز، وأدرب الجدد على فصل بين الحياة وغرفة الأخبار. كيف لا؟ ولكني بعدما كنت أغني للشبابيك صرت أرتعد من الوقوف أمامها - كان خيال فوهة السلاح لا يبرح الزجاج، وكنت لا أحلم إلا بالنوافذ تنفجر وتتكسر والدم يسيل في غرفتي.
كان يحمل هو السلاح. دائمًا. كلماته قليلة، صوته لا يُنسى. اتخذني رهينة أسمع صرخات ضحاياه، أشاهد رأس كل جثة يسقطها، يرغمني على شرب القهوة، ثم يأمرني أن أمحو الدماء بكفيّ العاريتين. أحصي الموتى كل صباح وأسلمه الرقم. لم يكل يومًا، لم ينفد الرصاص، ولم تنفد الأجساد. أهرع مع بزوغ الشمس وسط الزحام لأجلس عند قدميه. تتساقط قطرات الدم من شعري، وتحاصرني ذراعاه اللتان لم تلمساني أبدًا. أتظاهر لنفسي أني أخادعه. ولكنه كان أعلم مني. كان موقنًا أني لن أهرب أبدًا. كل يوم يحصد الرعب من عيون الرجال، ويلمع سلاحه. كل يوم يسدد نظرة كرمح من الثلج إلى جسدي. كل يوم يخبرني أنه ينتظرني غدًا، إن دوري آت لا محالة. ولكني استيقظت يومًا ومت قبل أن يصوب فوهة بندقيته في عيني.