نسيم البحر

جلست على مائدة الغداء وكل ما ترجوه نفسي ألا يسألني أحد اليوم عن سبب عقمي للمرة المئة والثلاثين، طوال الطريق إلى هنا وأنا أدعو ألا أسمع كلمة عن الموضوع، لكن عمتي لا تفشل أبدًا في تخييب ظني بأسئلتها، لذا وعلى غرار المرات السابقة التي ابتسمت فيها بصمت ثم قلت «مكتوب»، حملت حقيبتي وخرجت من المنزل تاركة توسلات الجميع لي بالبقاء وكلمات أمي الأخيرة قائلة «اتركوها لحالها...».
نزلت في الطريق المنحدر للأسفل، سبقتني قدماي وكدت أسقط، إلى غاية أن غرست قدماي في الرمال، لو يوجد شيء وحيد أشكر عمتي عليه، سيكون منزلها القريب من البحر.
بما أنه فبراير، عائلة واحدة فقط هنا، زوجان وابن يلهو وسط الرمال، بينما والدته تحذره من توسيخ ملابسه، تجمعت بعض الدموع في عينيّ، لو كان لي ابن لما وبخته مثلها، هذا ما قلته، ثم خفت من نفسي الحسودة التي تملكتني للحظات وتمنيت السعادة لهذه العائلة.
مشيت على الشاطئ، سارحة في أفكاري، الرياح تلامس وجهي وتعبث بفستاني، إلى غاية أن دست عليّ شيء غريب أفقد توازني، رفعت رجلي فإذا هي قارورة داخلها ورقة، ترددت قليلًا في الاطلاع على محتواها، لكن فضولي تغلب علي وفتحها.
اتضح أنها رسالة...
«إلى المجهول،
اليوم آخر جلسة كيميائي، أخبروني أن أستسلم وأن المرض فتك بجسمي كله، لا أمل لي في الحياة، لكن لا ترهقني حياتي التي تذهب من جسدي بقدر حياة طفلي التي أجهل مصيرها، والده الذي تزوج من أخرى لم يشفق على مرضي ولا على ابنه، قلبي يؤلمني والألم ينهش روحي عند التفكير عما سيواجهه من بعدي، اسمه نسيم، لأنني أعشق نسيم البحر، وسأرسل كلماتي مع نسيم البحر كذلك، أيا كنت أيها الإنسان الذي يقرأ كلماتي، هل يمكنك الاطمئنان على حال ابني؟ لا أعرف إلى أي مدينة ستسافر هذه القارورة، كل ما آمله هو سقوطها بين أيادٍ رحيمة، كل ما بقي لي شهر لأعيشه، وسأترك طفلي غدًا في المركز الذي كتبت عنوانه ورقمه وراء الورقة، عمره سنة فقط، إنه طفل جميل لا يعرف من خبث الحياة شيئًا، لديه اسم ومشاعر، سيكبر وتكبر طموحاته ولا أرغب له في العيش وحيدًا، كل ذنبه في الحياة هو أم لم تستطع الحفاظ على حياتها ولم تعرف عائلتها يومًا، أريد منه العيش طويلًا وبصحة جيدة، أريد منه رؤية النور وتجربة نسيم البحر، لأنه يستحق كل الحب في هذه الحياة، أرجو منك يا قارئ كلماتي لو تسأل عن حاله فحسب، هل ابني سعيد؟
مايو 2023»
مرت على الرسالة ثمانية أشهر، دموعي المنهمرة بللت الورقة وجعلتها تنكمش بين يدي المرتجفتين، انهرت ولامست ركبتاي المياه التي جرفت لمنتصف الشاطئ، أحسست بنسيم البحر الذي سيذكرني إلى الأبد بصاحبة الرسالة.
حملت هاتفي واتصلت بزوجي، رد سريعا، لأنه يعلم كم يجرحني كلام عائلتي.
- هل أنت بخير؟
- أجل، أنا بخير... رغبت بإخبارك شيئًا، تعلم أنني لطالما رفضت رفضًا تامًا اقتراحاتك في التكفل بطفل.
- أجل، هل حصلت معجزة وغيرت رأيك؟
- هناك طفل أرغب في التكفل به.
أحسست بسعادته من الطرف الآخر، سمعت صوت ضحكته وابتسمت لذلك، أخبرته أني سأوافيه بالتفاصيل عند عودتي.
ربما والدة الطفل شفيت بمعجزة ما وربما يكون الطفل يعيش تحت سقف عائلة لطيفة الآن، لكنني قررت ولو تم التكفل بالطفل نسيم سأتكفل بطفل آخر وأجعله أسعد طفل في العالم.