نافورة بيضاء في المحيط

في اندفاعة جنونية رمي "الحوت القاتل" بنفسه على الشاطىء، كانت بقعة منعزلة من شاطىء باتاجونيا الأرجنتينية المواجهة للمحيط الأطلنطي، ومع ذلك رصدت (كاميرات) التلفزيون هذا الحدث الغريب. فالحيتان تفعل ذلك بشكل جماعي. نتيجة لآفة تصيب أدمغتها، أو علة تعطل قدرتها على تحديد البعد من الشاطىء عن طريق الصدى. أما أن يفعل ذلك فرد واحد فهي ظاهرة غريبة، تعني أن الحوت لديه سبب خاص للانتحار لم يصل إليه العلماء بعد. وإن لم يتوصلوا إلى السبب سريعا فإن الحوت الذي قاوم محاولات إعادته إلى الماء سيموت في غضون أيام قليلة. سيقتله ارتفاع حرارة جسمه البعيد عن تبريد الماء وسيعيق ثقله عملية التنفس التي اعتاد اتمامها، وهو عائم على سطح الماء. إن عضلات جسمه تختزن الكثير من الأكسجين الذي يبقيه حيا دون تنفس لفترة معقولة، لكن هذا لن يستمر طويلاً.

         صارت أخبار الحوت مادة أساسية في نشرات الإذاعة والتليفزيون ومتابعات الصحافة، وانفعل بها الناس العاديون وأنصار البيئة، لكن أكثر المنفعلين بها كانت صبية أرجنتينية عربية الملامح والجذور، اسمها "آيلا" تعيش مع والديها العاملين في إحدى محميات "حيوان الفقمة"، على الشاطىء نفسه.

         ظلت "آيلا" تبكي بتأثر، وبشعور كبير بالذنب، وبينما كان أبواها يحاولان تهدئتها لم تحتمل كتمان سر بكائها وشدة تأثرها، وأخذت تردد وهي تشرق بالبكاء إنها فعلت ذلك لأنها تحب الفقمات وتشفق عليها، خاصة تلك الصغيرة بنية الفراء من أشبال "أسد البحر".

         طوال أيام الربيع وحتى أوائل الصيف ظلت "آيلا" تراقب بشغف تجمعات أشبال "أسد البحر" على شاطىء المحمية. مئات من الأجسام الملساء طوربيدية الشكل في حجم أطفال سمان في شهورهم الأولى. وضعتها أمهاتها في أوقات متقاربة على الشاطيء وعادت إلى البحر لتتغذى، تبتلع الكثير من الأسماك والحبار الذي تحبه طوال أسبوع كامل ثم تعود إلى صغارها. لكل أم صغير واحد لا تخطئه من بين المئات، تأتي لترضعه حتى الشبع وتعود إلى البحر، ويظل ذلك يتكرر حتى يشتد عود الصغار فيغادروا الشاطىء إلى الماء. لكن هذا الحنان كان هناك ما يعكر صفاءه.

         بين الحين والحين كان قلب آيلا  ينتفض ذعرا وهي ترى ذلك الظل القاتم مقبلا في موجة عالية تأتي الموجة من عمق المحيط المفتوح وتضرب الشاطىء الذي تتجمع عليه جراء الفقمات وما إن تتبعثر الموجة رشاشاً حتى يتضح مقدم الحوت الضخم بظهره الأسود اللامع وبطنه الأبيض، وتلك العلامة البيضاء على جانب رأسه. إنه يطمو على الشاطيء محمولا بقوة مياه الموجة، وبضربة واحدة من ذيله الهائل أفقي الزعنفة يشق الهواء ويهوي، يبعثر عشرات الفقمات الصغيرة المذهولة ويطير بعضها في الهواء. وكالبرق يستدير ويلتقط واحدا منها بين أسنانه.

          ومع ارتداد بقايا الموجة التي جاء فيها إلى البحر يعود، يعوم مبتعدا بسرعة ويؤدي مع ابتعاده طقوسا بدت لآيلا أقسى ما يكون.

          إن الحوت القاتل يغطس برأسه في الماء وفي فمه الفريسة، يصنع قوسا في غوصه ويصعد برأسه من جديد في حركة تسمى الا ختراق. يفلت فريسته فترتفع عاليا في الهواء، وقبل أن تهوي إلى الماء يعاجلها باستدارة خاطفة، ويضربها بذيله فتعود ثانية إلى الهواء. تهوي ليلتقطها بأسنانه من جديد، ومن جديد يكرر المحاولة، وبعد دقيقة من هذإ السحق المتواصل يبتلع الحوت فريسته دفعة واحدة دون مضغ .

          أثار هذا العرض الوحشي غضب آيلا على الحوت القاتل، وقررت أن تلقنه درسا يؤلمه. اقترضت بضع كتل خشبية من ورشة المحمية ودستها بين جراء الفقمات على الشاطىء. جاء الحوت مرة ومرة ومرة، ثلاث مرات لم يلتقط فيها غير الفقمات الصغيرة الحقيقية لكنه في المرة الرابعة وقع في فخ "آيلا". ضرب بذيله المهول ضربة أوجعته لكنه استدار كعادته ليلتقط الفريسة التي لم تكن غير إحدى كتل الخشب البنية.

          تهللت "آيلا" فرحا في باديء الأمر، لكنها راحت تحس بالانقباض وهي تراقب الحوت بعد ذلك. بدأ ابتعاده عن في الماء يتلوى وينتفض ويثير من حوله اضطرابا ملحوظا. لم يغطس ولم يصعد ولم تتصاعد عالية من منخره نافورة زفيره المشبع ببخار الماء كالمعتاد، ولم يكن يفتح فمه، وراح الموج يرتفع به ويهبط ويطوحه بعيدا كأنه جثة هامدة. اختفى تماما عن عيني "آيلا" لكنها عادت تراه على شاشة التلفزيون التي راحت تبث أنباء محاولة انتحاره على الشاطىء.

          ما إن أخبرت "آيلا" والدها بما حدث بينها وبين الحوت حتى أسرع بها إلى المكان المعني، كان الحوت هناك مثل قبة سوداء بسفول بيضاء على رمال الشاطئ وحوله زحام من البشر، ميز والد رفيف من بين الزحام أفراد فريق الإنقاذ البيئي بستراتهم الصفراء الليمونية، وسألهم عن رئيس الفريق، وكان أحد علماء سلوك الحيوان ترك الوالد ابنته تحكي للعالم ما حدث لكنها لم تكن تستطيع منع نفسها من البكاء تأثرا. هدأ العالم من روعها وفرح كثيرا بكشفها عن سبب محاولة انتحار الحوت. وأخبرها بأنه سيحدثها بعد إنقاذ الحوت عن سر سلوكه الذي بدا لها قاسيا ووحشيا.

          أسرع عالم سلوك الحيوان يوجّه أفراد فريق الإنقاذ حول الحوت الساكن على الرمل، دفعوا زلاقات قابلة للطفو تحت جسمه البالغ تسعة أمتار طولا وتسعة أطنان وزنا، وبروافع خاصة فتحوا فمه الكبير، وكانت كتلة الخشب البنية مهشمة وإن اشتبكت بها أسنانه. حرروا الأسنان من قطعة الخشب وأخرجوها من الفم. وعبّر الحوت عن شدة ارتياحه بتثاؤب كبير وصيحة عظيمة. ولم يقاوم محاولات إعادته إلى الماء هذه المرة.

          في غمرة الابتهاج بنجاح إنقاذ الحوت كانت "آيلا" تشرق بدموع الفرح. وأخذ رئيس فريق الإنقاذ يحدثها عن "الحوت القاتل" الذي لم يكن يفعل أكثر من أنه يأكل ليعيش، ولأن حاسة التذوق لديه ضعيفة وأسنانه المدببة الأربعين ليست إلا مجرد أداة للإمساك بما يريد. فإنه يضرب الفريسة على هذا النحو لتصير كتلة طرية يستطيع أن يبتلعها دون أن تؤذيه العظام. ثم إن الفريسة لا تشعر بالألم إذ تفقد وعيها مع أول ضربة .

          أخذ الشاطيء يخلو من الزحام، وبينما كانت "آيلا" تمضي منصرفة مع والدها، التفتت راضية إلى أفق الماء البعيد، كانت ثمة نافورة بيضاء تبدو صغيرة، لكنها في  حقيقة الأمر لم تكن كذلك. إنها زفير واحد هائل لقرابة ألفي لتر من الهواء وبخار الماء تنطلق عاليا بارتفاع ثمانية أمتار.. فوق رأس الحوت الفرح بالحرية والنجاة.