طفل من مدينة فاس

تصوير: حسين لاري

          اسمي إدريس وأنتم ترون صورتي الآن وأنا أعمل في الطرق على النحاس. إنها هوايتي وعملي فى الوقت نفسه، ولكن.. كلا لدي عمل آخر، فأنا في كل صباح أحمل كتبي وأذهب إلى جامعة القرويين حيث أتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وبعد الظهر أذهب إلى حانوت أبى وأجلس معه وأراقبه، وهو يعمل لأشرب منه "الصنعة" كما يقولون، أصدقائي يفعلون نفس الشيء صديقي إبراهيم يتعلم صناعة الفخار، وحسين يهوى أعمال النجارة.

          حانوت أبي ضيق حقا، ولكنه مزدحم بالأنية المنقوشة من الفضة والنحاس، وعندما تغيب الشمس يظل الحانوت متألقا من كثرة ما فيه من آنية براقة، كأن في داخله عشرات الشموس. هل رأيتم أصابع أبي وهي ترسم فوق المعدن. إنه واحد من أبرع صناع مدينة "فاس"، وأنا أحب أن أراقبه وهو يطرق النحاس بمطرقة صغيرة فيرسم زهورا ونجوما وغزلانا وآيات قرآنية وزخارف رائعة الجمال.

          هل تعرفون لماذا أطلقوا عليها اسم "فاس "؟.

          هناك أكثر من حكاية، ولكن أشهرها تقول إن العمال كانوا يقومون بحفر أساسات المدينة بواسطة الأيدي والعصي، لذا كان العمل متعبا وطويلا، ثم اكتشفوا في إحدى الحفر فأسا ذهبية قديمة فأخذوها وصنعوا مثلها عشرات الفؤوس وعاودوا العمل بهمة ونشاط حتى تم بناء المدينة وأطلقوا عليها اسم "فاس" تيمنا بذكرى هذه الفأس.

          من هذه الحكاية بدأت مدينتي رحلتها لتصبح واحدة من أهم عواصم الإسلام على مدى عشرة قرون، شهدت صعود الممالك وهبوطها، وتقلبات النصر والهزيمة، وعاشت لحظات من الازدهار ولحظات من الانحسار أيضا، وعندما ضاعت بلاد الأندلس وهاجر العرب الذين كانوا يعيشون فيها فتحت فاس ذراعيها لهم فاستوطنوها وأصبح داخل أسوار المدينة قسمين.. مدينة القرويين.. ومدينة الأندلسيين.

          سوف أقول لكم الآن سرا عن فاس لا يعرفه إلا من عاش فيها، فعندما تسير في شوارعها لا تدري أنك تسير فوق شبكة من أقدم قنوات الماء في العالم، فهي أول مدينة حفرت هذه الشبكة الدقيقة حتى يصل الماء الصافي إلى كل بيت من بيوتها، إنها تشبه شرايين الدم في جسم الإنسان تتفرع وتتفرع وتحمل الماء إلى 143 مسجدا ومدرسة وأكثر من 13 ألف منزل وحانوت و 4 آلاف نافورة، وسقاية وتبلغ هذه القنوات 70 كيلومترا.

          ومثلما كانت هذه القنوات هي شرايين الحياة في المدينة أصبحت الآن مصدر الخطر لها، فعلى مدى سنوات طويلة أهملت هذه القنوات، ولم تعد تنظف بشكل جيد فأغلقت ولم يعد يتم تصريف المياه من البيوت بشكل جيد وأصبحت تهدد أساسات المدينة وتنذر بانهيار كل هذه البيوت القديمة.

جولة فى الحارات

          أبي يعود من الخارج. إنها فرصة لي أن أترك الحانوت في عهدته وآخذكم في جولة سريعة في أرجاء فاس، الجولة كلها سوف تكون على أقدامنا لأن الشوارع الضيقة لا تسمح بدخول السيارات، وإذا احتاج الأمر لنقل البضائع أو حمل مواد البناء، فإننا نستعين ببعض الدواب.. هل ترى هذه الدواب.. نحن نطلق على الحمار لقب "التاكسي الصغير" وعلى البغل لقب "التاكسي الكبير"، وكما حكى لي جدي كانت هذه الحيوانات قديما مدربة تدريبا خاصا على السير في شوارع فاس، فهي لا تصطدم بأحد، ولا تأكل من الأطعمة أو الخضراوات الموجودة في المحلات والأسواق، ولا تترك مخلفاتها في الحواري أيضا.. كانت دواب عجيبة وغاية في الذكاء ولكن هذا الأمر انتهى الآن. لم تعد هناك دواب مدربة وتفكر لجنة حماية فاس في استخدام السيارات بدلا منها.. طبعا ستكون سيارات خاصة صغيرة الحجم جدا حتى تستطيع المرور في الطرقات الضيقة وتدار بالكهرباء حتى لا  تحدث تلوثا للبيئة. ها نحن نصل إلى أقدم جامعة في العالم.. إلى جامع القرويين.

          إلى هنا آتي كل صباح للدرس كما قلت من قبل، علي بالطبع أن أحفظ الباب الذي أدخل منه لأنه يوجد للمسجد حوالي 25 بابا، والعمود الذي أجلس تحته لأن هناك مئات الأعمدة. عمر المسجد حوالي 1200 عاما فقد أنشأته السيدة فاطمة الفهرية التي كانت ابنة أحد التجار الأثرياء، وقد جاء هذا التاجر من بلدة القرويين التونسية لذلك فقد أطلقت اسمها على المسجد. أنا أدرس هنا..

          وأحب جزء إلي في جامعة القرويين هو المكتبة. إنها أجمل لحظات حياتي حين أدخل إليها وأجلس وسط الصمت الذي يخيم عليها لأتصفح المخطوطات القديمة، إنها مكتوبة على صحائف من الجلد الرقيق أو الورق، يشع منها روائح الزعفران العتيقة. كنت أتخيل الخطاطين القدامى وهم يجلسون الليالي الطويلة على أضواء الشموع أو مصابيح الزيت الخافتة وهم ينقشون الحرف وراء الحرف..

          طرقات فاس متشعبة يحيط بها جميعا سور ضخم يبلغ طوله 24 كيلومترا، فيها أكثر من باب كانت تغلق في الماضي ويقف عليها الحراس طوال الليل، أبواب المدينة الآن لم تعد تغلق بل إن هناك فاس أخرى جديدة نمت واتسعت خارج هذه الأسوار.. إنها فاس الجديدة..

          وبرغم أن الشوارع في فاس الجديدة واسعة ومليئة بالأشجار، والبيوت مريحة إلا أنني أحب فاس البالي. لماذا؟.. لأنني أعرف كل شبر فيها وأشم رائحة كل حي من أحيائها. انظر هذا هو حي العطارين  ، أكياس البهار والأعشاب والقرفة، ما أن تبدأ خطواتك الأولى فيها حتى تأخذ بالعطس، إن الرائحة النفاذة تدخل إلى أنفك رغما عنك. هل يمكن أن كم صنفا يبيع العطار.. آلاف الأصناف.. والمدهش أن العطار يعرف اسم كل صنف وفائدته. وقديما قبل انتشار الأدوية الحديثة كان العطار هو الذي يصف كل أنواع الأدوية معتمدا على معرفته بفوائد الأعشاب والنباتات.

          اليوم هو الخميس.. وروائح البخور تعبق في أحياء فاس خاصة في حي الشماعين.. أي صناع الشموع الملونة.. أنظر كم هي جميلة بما عليها من شرائط ملونة، إنها تستخدم في مناسبات الزفاف وأعياد الميلاد.. سوف أشتري شمعتين.

شمعة على مقام

          الشمعة الأولى سوف أضعها في مقاوم مولاي إدريس الذي أسس هذه المدينة حتى يعرف أن له أصدقاء صغارا يعيشون في مدينته ويقرأون الفاتحة على روحه.

          والشمعة الأخرى سأوقدها في مقام سيدي أحمد التيجاني أحد شيوخ الإسلام الذين كسبوا حب الناس حتى أنشأوا طريقة صوفية تحمل اسمه، أهل فاس يأتون جميعا للتبرك بهذا المقام، بل إن البعض يعتقد أنه قبل الذهاب للحج إلى بيت الله الحرام يجب الذهاب أولا لزيارة مقام التيجاني، وليست هذه العادة منتشرة في فاس فقط بل إنها منتشرة في السنغال وموريتانيا المجاورتين.. ويمكنك أن تعرف عدد الزوار من عدد الشموع التي تشتعل على المقام.

          والآن يا صديقي لا تتوقف .. ما زال أمامنا العديد من الأحياء.. حي الخشابين، وحي صناع الجلود، حي تجار الأقمشة والملبوسات.. وهذا هو الحي المفضل عندي.. حي صناع الحلوى.. أنت تعرف طبعا أن ألذ أنواع الحلوى هي المغربية وألذ أنواع الحلوى المغربية هي التي في فاس.. تذوق هذه القطعة من حلوى "الشباكية" إنها مليئة بالثقوب كأنها شبابيك صغيرة.. هشة ومسكرة ولذيذة سوف أريك صنفا آخر.

          ولكن ما هذا.. ها هو أبي يقبل علينا مسرعا.. ماذا حدث يا أبي؟

مقاومة الانهيار

          أبي يقف أمامى وهو يهتف في صوت لاهث:

          - أين أنت يا إدريس بحثت عنك طويلا، هيا.. هناك مشكلة في منزلنا وعلينا أن نذهب بسرعة. أجري وراء أبي في الطرقات الضيقة، بيتنا في خطر ظهر فيه شق طويل وعميق بطول الجدار، ولو اتسع أكثر من ذلك فسوف ينهار المنزل كله، وأمي وإخوتي في حالة من الرعب وأبي يهتف:

          - يجب الاتصال بقسم الطوارىء في معذوبية إنقاذ فاس.. إنها تعمل ليلا ونهارا.

          جلست لأراقب الشرخ إن كان ثابتا أو آخذا في الاتساع، تجمع الجيران حولنا على استعداد لتقديم أي مساعدة، عرض بعضهم استضافتنا في بيوتهم حتى تنتهي الأزمة، وأسرع آخرون يحضرون الأدوات اللازمة لوقف الشرخ من دعائم خشبية، ولكن رجال إنقاذ مدينة فاس جاءوا سريعا. إنهم مدربون على الحضور إلى مكان الحادث في زمن لا يزيد على ساعتين وهم مجهزون بكل وسائل الإنقاذ. بدأوا العمل على الفور، ووقف رئيسهم المهندس الشاب عبد الرحمن يشرف على القيام بعمليات الترميم السريعة. الجميع يعرفون المهندس الشاب كما أعرفه، فلا توجد أي مشكلة تواجه بيتا من بيوت فاس القديمة إلا وكان حاضرا.

          أدهشني أنه كان يحمل معه خريطة مرسوما فيها موقع منزلنا وكل المعلومات التي يمكن أن نتصورها عنه، متى بني.. ومن أي مادة.. وعدد الغرف وعدد الأفراد.. والإصلاحات السابقة.. ونظام قنوات الماء.. أدركت فيما بعد أن هناك بيانات وافية مثل هذه عن كل بيت من بيوت فاس.

          اطمأن قلبي قليلا حين رأيت الشرخ الواسع وقد بدأ يمتلىء بالأسمنت، والدعامات وهي تسند الجدران، وقال لي المهندس عبد الرحمن مبتسما:

          بيوت فاس كلها أثرية.. ويجب ألا نسمح بانهيار أي واحد منها.

          ثم أخذ يتحدث معي عن منظمة عالمية اسمها "اليونسكو" إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وهي تهتم بثقافات الشعوب وتراثها وآثارها التاريخية، وقد أعلنت هذه المنظمة أن مدينة فاس هي جزء من التراث الإنساني الذي يجب المحافظة عليه.. لقد حان الوقت كي تنتبه شعوب العالم إلى أهمية هذه المدينة، ومنذ ذلك الإعلان وقد بدأ العلاج الفعلي لكل أمراض المدينة.

          نظفت قنوات المياه، وأعيد ترميم البيوت والأماكن الأثرية، ونقلت كثير من الصناعات التي كانت تلوث المياه مثل دباغة الجلود والصباغة وصنع المعادن، وأقيمت مراكز لإحياء الحرف القديمة، وقد أعدت فرقة الطوارىء هذه للعمل ليلا ونهارا.

          لقد رمم بيتنا مؤقتا وعدنا للإقامة فيه، ولكن ما زالت هناك المزيد من الإصلاحات لتدعيم أساساته وتقوية جدرانه، البعض يقول إن علينا أن نغادر المدينة القديمة لنقيم في مكان آخر جديد.. ولكن أين أجد جامعة مثل القرويين، وأين أتعلم النقش على المعادن، ومن الذي يوقد شمعة في مقام مولاي إدريس. إن فاس مدينتي تحيا وتعيش بواسطة الناس الذين يعيشون فيها.. فإن تركوها ماتت.. لذا فإنني أعتقد أنها سوف تعيش إلى الأبد لأنه لا أحد يفكر في تركها.




 











طفل من مدينة فاس





البوابة الكبرى التي تؤدي إلى شوارع فاس الضيقة





عازف الربابة في شوارع مدينتي





صديقي إبراهيم يرسم على الفخار





أما حسين فيهوى أعمال النجارة





حلوى فاس ألذ حلوى في المغرب





بيوت فاس كلها أثرية.. ويجب ألا نسمح بانهيار أي واحد منها