عُمَر صَديقي

عُمَر صَديقي

رسوم: هيام صفوت

كَانَت لَيلَةً طَويلةً، قَضَيتُهَا فِي إعْدَادِ مَلابِس المَدرَسَة وتَلمِيعِ حِذَائِي الجَديْد وَتَرْتِيبِ كُتُبِي بِحَقِيبَتِي الجَدِيدَة التي انْتَفَخَتْ بِالكُتُبِ الكَثِيرَة وَالكُرَّاسَاتِ المُلَونَة. تَعَوَّدتُ أن أحْمِلَهَا عَلَى ظَهْرِي حَتَى نَاءَ بِهَا وَشَعَرْتُ بِانحِنَاءَةِ ظَهْري، وَكَذلك أَصْدِقَائِي. اسْتَيْقَظْتُ وأنَا أُفَكِّرُ في إيجَادِ حَلٍ لِتِلْكَ الحَقِيْبَة المُنْتَفِخَةْ..

جَلَسْتُ بالصفُوفِ الخَلْفِيَّةِ كَالعَادَةِ لأنَّنِي أَطْوَلَهُم بِالفّصْلِ، قَابَلْتُ أصْدِقَائِي بِحَفَاوَةٍ وَتِرْحَابٍ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ الوُجُوم الذي يَعتَري وُجُوهَهُمْ.. وَتَعَجَّبُوا مِن إِقْبَالِي عَلَى الدَّرْسِ وَالمَدْرَسَةِ، وَأَخَذْوا يَتَذكَّرُونَ أيَّامَ الإِجَازَاتِ وَالَّلَهْوِ وَالاسْتِيقَاظِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَالَّلعِبِ بِغَيرِ حِسَابٍ وَالسَّهَر أَمَامَ شَاشَةِ الكُمبيوتَر وَالتِّلْفَازِ حَتّى يتبَيَّنَ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الأَسوَدِ وَتُشْرِقُ الشَّمْسَ.

بِالطَّبْعِ أَخْبَرْتُهُم أنَنِي اِسْتَمْتَعْتُ مِثلَهُم بالإِجَازَةِ لَكِن بِطَرِيقَتِي التي سَاعَدَنِى فِيهَا أَبِي الحَبِيب، فَكُلُّ شَيءٍ بِمِقدَارٍ، لَعَبْتُ وَلَهَوتْ دُونَ أَن أسْتَبدل آيةَ النَّهَارِ بِاللَّيلِ كَمَا يَفْعَلُونَ، فَأنَا أُحِبُّ الشَّمْسَ وَهِى تُشْرِقُ تَنْشُرُ أشِعَتَهَا الذَّهَبيّة تُنِيرُ الكَوْنَ فَيَصْدح الطَّير وَتَستَيقِظُ مَخْلُوقَاتِ الله، وَأَعْشَقُ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَهِي تَمِيلُ تَبْتَلِعُهَا السَّمَاءْ تَحْتَضِنُهَا مِثْل أُمٍّ رَؤومْ. قُلْتُ لَهُمْ: كَيْفَ يَفُوتُنِي كَلَّ هَذَا الجَمَالْ؟

أَصْبَحَ مُعْظَمُنَا يَسِيرُ وَظُهُورَه مَحْنِيَّة وَمُقَوَّسَةْ، تُشْبِه العَجَائِزِ الطيبينَ وَهُم يُجَرْجِرُونَ أَقْدَامَهُم الثقِيلَة، مَازِلْنَا صِغَاراً بَعْدْ (قُلْتَهَا لِكُلِّ أَصْدِقَائِي بِالفَصْلِ) وَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِم إِنْشَاء مَكْتَبة خَشَبِيّة نَضَعُ فِيهَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الكُتُبِ، وَافَقَنِي الجَمِيْع إلا صَدِيقِي عُمَر الذي انْتَحَى جَانِبَاً وَلَم يُعَلِّقْ.

ظَنَنتُ أُنَّ الأَمْرَ يَتَعَلَّقْ بِحُزْنِهِ الشَدِيدْ عَلَى مَوتِ أَبِيْه في الصَّيف المَاضِي، لَكِنَّنِي وَجَدْتُه بِنَفْسِ الحَقِيْبَة، يُوَارِي خُدُوشَهَا بِجَوَانِبِهَا بِاللونِ الأَسْوَدِ الغَامِقْ.. حَتَّى مَلاَبِسَهُ لَمْ تَكُنْ زَاهِيَة وَجَدِيدَة مِثْلَ كُلِّ سَنَةْ.. وَلأنَّه جَارِي أَيْضَاً اسْتَأْذَنْتُ أَبِي بِزِيَارَتِهِ وَوَافَقَ عَلَى شَريطَة أَنْ أُحْضِرَ لَهْ هَديَّةْ تَلِيقُ بِهِ كَصَدِيِقٍ وَجَارْ.

الغَريبْ أَنَّ عُمَرَ رَفَضَ هَدِيَّتِي بِإصْرَارٍ وَامْتَنَعَ عَنْ قُبُولِهَا بِحُجَّةِ أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيْعَ رَدَّهَا، خَاصَّةً بَعْدَ كَسَادِ تِجَارَةِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِه وَتَرَاكُمِ الدَّيُونَ عَلَيْهِمْ.

شَعَرْتُ بِالضِّيِقِ حِينَهَا لأنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ مُسَاعَدَة صَدِيقِي، كَانَ مِحَلُّ أَبيه يَبِيعَ كُلَّ الأدَوَاتِ المدْرَسِيَّةِ وَالحَلْوَى، وَرُغْمَ أَنَّهُ يَبْعُد كَثِيراً عَنْ المَدْرَسَةِ، إلا أنَّنِي نَصَحْتُ أصْدِقَائِي أَن يَشْتَروا مِنْه كُلَّ احْتِيَاجَاتِهِم وأَنْ يَنْشُرُوا خَبَرَ وُجُوده بَينَ أَصْدِقَائِهِم.. لَمّا عَلِمَ أَبِي بِمَا فَعَلْتُ فَرِحَ كَثِيرَاً وَقَالَ: أَنْتَ بِعَمَلِكَ هَذَا سَاعَدْتَ جَارَكَ وَصَدِيقَك دُونَ أنْ تَجْرَحَ أَو تُؤذِي مَشَاعِرَهُ.

وَرَأيْتُ عُمَرَ وَاقِفَاً بِالمِحَلِّ يَبِيعُ وَوَجْهَهُ سَمِحَاً بَشُوشَاً، يُسَاعِدُ أُمَّهُ وَإخْوَتَهُ دُونَ تَمَلْمُلٍ أَو ضَجَرْ، حَتَّى إنَّنِي كُنْتُ أسْتَمْتِعُ بِرِفُقَتِهِ بَعْدَ صَلاَةِ الجُمْعَةْ، أُسَاعِدَهُ بِالمِحَلِّ وَالعَامِلَ بِإِجَازَةْ.. كَانَ سَعِيداً لِلغَايَةِ لأنَّهُ كَانَ يَبِيعُ فِي ذَلِكَ اليَومَ أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَيَامِ الأُسْبُوعِ..

سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي بِصَحْنِ البَيْتِ وَهُوَ يُرَتِّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى:

يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ - سورة البقرة آيه رقم 273

تَذَكَّرْتُ وَقْتَهَا صَدِيقِي عُمَرْ.

 



بقِلَم: أميمة عزالدين