عُلومٌ مسليّةٌ.. كَميّة المطرِ: قصة: د. حسان عبدالباسط الجودي

عُلومٌ مسليّةٌ.. كَميّة المطرِ: قصة: د. حسان عبدالباسط الجودي

رسم: نسرين خربوطلي

أَلْصَقتْ نَايا وَجْهَهَا بزجاجِ النَّافذةُ، وَهي تُرَاقبُ الأَمطارَ الغَزيرَةَ تغسلُ الهواءَ والأَشْجَارَ والطُّرُقَاتِ.

ثمَّ قالتْ: ما رأيُكَ أَنْ نُعَبِّئَ الأَمْطَارَ الْهَاطلةَ في زُجَاجاتِ مياهِ الشُّرْبِ، لنشرَبَ مِنْها. ضحكتُ بسعَادةٍ لهذه الأَفكارِ الطُّفوليَّةِ وطَلبْتُ مِنْهَا أن تَخمّنَ كَْم مِنْ الزُّجَاجَاتِ يَلْزمُ لتعبئةِ الأمطَارِ السَّاقِطةِ فَوْقَ المدينةِ مُنذ الصَّباحِ. أَجَابَتْ بِبَراءَةٍ: أَعتقدُ أنَّ خَمْسينَ زُجَاجَةٍ سَتكون كافيةً. ضحكتُ من جَديدٍ، وقلتُ لَها، اضْربي هذا الرَّقمْ بالملايين وستَحْصُلينَ على عددِ الزُّجَاجاتِ التَّقْريبي الذي يتَّسِعُ لكلِّ الأَمْطارِ المُتَساقِطَةِ.

والحقيقةُ أنَّ نايا الصَّغيرةَ مثْلُ الكثيرِ من الأَطْفالِ، لا تَعْرِفُ أنّه يُمْكِنُ قِياسَ كَميةِ الأمطارِ الهَاطلةِ، عَنْ طريقِ وعاءٍ مُدرجٍ بالمليمتراتِ، يُوضَع في أَماكنَ مُخَصَّصةٍ تُسمَّى بمحطاتِ القياسِ المطَريَّةِ، فَلَوْ افْترضْنَا مثلاً أنَّه خلال هذا اليومِ الماطرِ وصَلَ ارْتفاعُ مياهِ المطرِ في هذا الوعاءِ إلى 10مم، حينَها نقولُ إنَّ كميّة الأمطارِ السَّاقطة فوق المدينةِ تُقدَّر بـ10مم خلالَ يومٍ كاملٍ، ولمعرفةِ حجمِ مياه المطرِ الهاطِلِ فَوْقَ منْطقةٍ ما، نقومُ بضربِ مساحةِ المنطقةِ بارْتفاعِ الْهطول المَطَري فَوْقَها. فَلَوْ افْتَرَضْنَا أنَّ مَطَرًا بارتفاعِ 10مم هَطَلَ على مساحةٍ صغيرةٍ قَدْرُها 2 كم2 خلال يومٍ واحدٍ، فإنَّ حَجْمَ مياهِ الأَمْطار هو: 20000م3 (عِشْرون ألفَ مترٍ مكعّبٍ). والمترُ المكعَّبُ كَمَا تعرفونَ هو وِحْدة لقياسِ الحجومِ وَهوَ يُكافئ ألف لِتْر، واللِّتْر هو ما تسعه بعضُ عُبوّاتِ مياهِ الشُّربِ، أَوْ عُبّوَّاتِ العصيرِ التي نَشْتَريها. وبالتالي فإنَّ (20000) م3 تَحْتَاجُ إلى عشرين مَلْيون زُجَاجةِ مياهِ شُرْبٍ بسعةِ لترٍ واحدٍ لتعْبِئتها.

سؤالُ نايا التّالي كَانَ مُتَوقَّعًا، مِنْ أَيْنَ نأتي بملايينِ الزُّجاجاتِ لنعبِّئَ مياهَ الأمطارِ؟

قلتُ لَها وأنَا أستمعُ إلى إيقاعِ قطراتِ المَّطَر الجميلِ: للأسَف لا يستطيعُ الإنسانُ الاستفادةَ مِنْ كُلِّ الأمْطارِ الهاطلةِ، خاصّةً فَوْق المُدُنِ، نظرًا لأن الإسْفلتَ الذي يُغطّي شوارعَهَا يُشكِّلُ طبقةً كتيمةً لا تَسْمَحُ لمياهِ الْمطرِ بالتَّسرُّبِ إلى أعماقِ الأَرضِ حيثُ يُمكنُ للنَّباتاتِ أَنْ تَسْتفيدَ مِنْ قسم منْها، والقسمُ الآخرُ يُخزّنُ في طَبقاتِ المياهِ الجوفيَّة التي نستطيعُ الحصولُ على الماءِ مِنْها في ما بَعْدُ بواسطةِ الآبارِ. إنْ مصيرَ مياهِ الأمطارِ في الشَّوارعِ هو فتحاتُ التَّصْريفِ الاصْطناعيَّةِ التي تقود المياهَ مِن جديدٍ خارج المدينةِ دون الاستفادة مِنْها. أمّا حينَ تسقطُ الأمطارُ على تُرْبةِ الحقلِ والسهولِ والوديان والجبالَ فإنّ جزءًا كبيرًا منها يتسرّبُ إلى داخلِ الأَرْضِ، وجزءًا آخر يتبخَّرُ، وجزءًا آخرَ يعودُ للْجَريَانِ عَلَى سَطْحِ التُّربَةِ، ليعودَ بَعْدها إلى المَجَاري المائيَّةِ. إنَّ الإنسانَ يَحْتاجُ إلى الماءِ للاسْتِمرارِ في حياتِهِ، فَهو يَشْربُ مِنْه، ويَرْوي المَزْروعاتِ بِهِ، وَيَسْتخدمه في الكثيرِ مِن الصناعاتِ المختلفةِ، التي تؤمِّنُ له احتياجاتِهِ المتنوّعةِ. لذلك قامَ الإنسانُ بِبناءِ السدودِ التي تجمعُ مياهَ الأمطارِ ومياهِ الأَنْهارِ، ليستخدمَهَا حين الحَاجَةِ إليْهَا، أي أثناءَ فتراتِ الْجَفافِ حينَ لا تَهْطل الأَمْطارُ. قاطعتْ نايا شَرْحي الْمُستفيضَ قائلةً: أَخْبِرني قليلاً عَنْ هذا الأَمرِ، لو اسْتَطَعْنا تعبئَةَ هذه الأَمطارِ المُتَساقِطَةِ في عشرينَ مليونِ زجاجةٍ كَمَآ قلت، مَاذا يُمْكِنُ أنْ نَفْعَلُ بها؟

الكثيرَ يا صغيرتي، أَجَبْتُها وأَنا أحْسِبُ في ذِهْني بعضَ الأرْقامِ، ثُمَّ تابعتُ: نَحْنُ أسرةٌ مُؤلَّفَةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَفْرادِ، وهذه الزجاجاتُ تَكْفينا لِلْشُّرْبِ وللاستخداماتِ الأخْرى في المنزلِ مِنْ نظافةٍ وطَبْخٍ وغَسيلٍ لمدة مَائةِ عامٍ كاملةٍ، أو بشكل آخر إذا أردتِ، هي تكْفي لتأمينِ مياهِ الشُّرْبِ لقريةٍ صغيرةٍ عددُ سكَّانِها أَرْبعةُ آلافِ شَخْصٍ لمدّة ثلاثِ سنواتٍ كاملةٍ، أو بشكْلٍ آخرَ تقريبي إذا أردتِ، هي تَكْفي لريّ حقولِ تلك القرية المَزْروعةِ بالخُضْراواتِ والأشجارِ المُثْمرة والقمحِ والبَطَاطَا والشَّوندرِ لمدة عامٍ كاملٍ.

توقفتُ عن الشَّرْحِ لأنْ نايا ذَهَبتْ لتَجْلبَ دفترَ الرَّسْمِ، حينَ عادت بدأت ترْسُمُ بسعادةٍ واهتمامٍ، حبّات المطرِ الكبيرةِ الّتي تَتَساقطُ مِن السماء عَلى الأرْضِ المُغَطَّاةِ بزجاجاتِ المياهِ الفارغةِ والأَوْعيةِ المُخْتلفةِ الأخُرى.

 



قصة: د. حسان عبدالباسط الجودي