أصدقاء من ورق.. كتاب: الحَاوي في الطِّبِّ

أصدقاء من ورق.. كتاب: الحَاوي في الطِّبِّ

كتاب: الحَاوي في الطِّبِّ
تأليف: أبوبَكْر مُحمَّدُ بن زَكَريّا الرَّازي

رسم: فاروق الجندي

سَكَنَ قُصُورَ الملوكِ والأُمَرَاءِ، وخَلَّدَتْه قَصَائِدُ الشُّعَراءِ، وكان سَبَبًا في إنْقاذِ أكْبر جَامعةٍ علميّةٍ من الفَنَاءِ فَصارَ مَرْجِعًا لكلِّ الأطبَّاءِ.

فَتُرى مَنْ هُوَ هَذا السَّاحِرُ الَّذي اسْتَطَاعَ أن يَجْمَعَ حَوْلَهُ الأمَراءَ والشُّعَرَاءَ والعُلَمَاءَ؟

إنَّهُ الصَّديقُ الذي نَعيشُ بَيْنَ صَفَحَاتِهِ اليَوْمَ أصْدقائي، كتابُُ «الحَاوي في الطبِّ» الذي أمَرَ الملكُ الفرنسيُّ الشهيرُ لويس الحادي عَشْر أطبَّاءَه بنَسْخِهِ كامِلاً ودَفَعَ لهُم كميّةً كبيرةً من الذَّهَبِ، تَشْجيعًا لهُمْ عَلى سُرْعةِ نَسْخِهِ كي يَكُونَ مَرْجعًا لَهُم إذا أَصابَهُ مَرَضٌ عَجَزوا عَنْ وَصْفِ الدَّواء لَهُ، وفي كتابِهِ «أقاصيصُ كونتربري» أبْدعَ الشَّاعرُ الإنجليزيُّ القديمُ جُوْفري تشوسَر قصيدةً رائعةً عَنْ صَديقِ الْيَومِ كتابُ الْحَاوي، الذي كانَ يُدرَّسُ في كليَّةِ الطبِّ بِبَاريسَ حتّى عام 1394م، وكانَ سببًا في إنقاذِ الجامعةِ من الدَّمَارِ عندمَا فُوجئَ رَئيسُها بانْهيارِ أحدِ مبانيهَا، فطلبَ مِنْ أحدِ مُقاولي البناء سُرْعةَ البَدْءِ في إصلاحِ مَا تهدَّمَ، وَلمْ يكنْ في خزينةِ الجامِعَةِ مَا يَكْفي لدَفْعِ النَّفَقاتِ، فاشْتَرَطَ المقاولُ أنْ يقدِّمَ إليهِ رَهْن ثمين حتّى يبدأ العملَ وَلَمْ يجْد رئيسُ الجامعةِ أثمنَ مِنْ كتابِ «الْحَاوي في الطبِّ» ليُنقذَ الجَامعةَ مِن الفَنَاء حَتّى يَسْتطيعَ تدبيرَ النَّفقاتِ.

صَديقُ الْيَومِ «كتابُ الحَاوي في الطِّبِّ»، هُو أَعْظمُ ما أَبْدعَهُ مؤلفَهُ أبوبكر الرَّازي الذي لُقِّبَ بـ«جالينوس العَربِ»، وبِرَغْمِ مرور 1147 عامًا على مولِدِه و1080 عامًا على رَحيلِهِ ماتزالُ ذِكْرَاهُ تَنْبضُ بِالْحَياةِ، حَتَّى أنَّ مُحرِّك الْبَحْثِ العالمي الشهير «جُوجِل»، احتَفَلَ بموْلِدِه هذا العام. عاشَ الرَّازي شَيْخُ الأطبَّاء العَرَبِ في النِّصْفِ الثَّاني من القرنِ التَّاسِعِ الميلادي في الْعَصْر العبَّاسي الثَّاني، وبَرَعَ كسائرِ عُلماءِ العَرَبِ في الْفَلْسَفَةِ والكيمياء والصَّيْدلةِ، وكانَ أوّل مَنْ اكتشفَ تأثيرَ الموسيقى على الصِّحَةِ النَّفْسيةِ للمَريضِ، فكانتْ أناملُهُ تُجيدُ العزْفَ بمهارةٍ عَلى أوْتارِ العُودِ، كَمَا تُجيدُ الْعَزْفَ بمهارةٍ على أوْتارِ الرُّوحِ والْبَدنِ فتكتَشفُ الألمَ وتُعالجَهُ.

وعِنْدَما أَرادَ الخليفةُ العبَّاسيُّ المُعْتَضد باللهِ بِناءَ بيمارستان (مستشفى) في بَغْدَادَ ليسَ لَهُ مَثيلٌ في كلِّ البلادِ، لَمْ يجد أمْهرَ مِن الرَّازي لاختيارِ مكانِ الـ«بيمَارستان» والإشرافِ عليهِ عِنْدَما يَكْتَمِلُ البناءَ، فكَّرَ الرَّازي في فِكْرةٍِ عَبْقريةٍ لاختيارِ الْمَكَان فعلَّقَ قِطعًا من اللَّحْمِ في عدّة أمَاكن، وكانَ في كلِّ يَوْم يُراقبُ أيَّ القطع ستكونُ الأَسْرَع في الْفَسَادِ، وعلى ضِفَافِ نَهْر دجْلةٍ كانتْ قِطْعة اللَّحْمِ الأخيرةِ تجفُّ ببطءٍ لَمْ تتعرَّض للفَساد، ووجَدَ الرَّازي أنَّ هذا المكانَ يتمتّع بجوٍّ صحيٍّ خالٍ من التلوّثِ، يتميّزُ بنقاءِ الهواءِ الذي حَافظَ على قِطعةِ اللَّحْمِ، وَهَكَذا كانَ مِيلادُ بيمارستان بغدادَ صَديقُ اليومِ هو أوَّلُ مَوْسوعةٍ حَاويةٍ لكُلِّ فُنونِ الطِّبِّ، جَمَعَ الرَّازي مادتَه في خَمْسةِ عشر عامًا ورجع لكتبِ مَن سبَقه من الأطبَّاءِ، ومَن عاصرَهُ منهُم وأضَافَ ملاحظاتِهِ الطبيّةَ ونسبَ كلَّ معلومةٍ لصاحِبِها. خَمْسَةٌ وعشرون مُجلَّدًا تضمَّنها صَديقُ اليومِ الذي يُدين له بالفَضْلِ الأطفالُ في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ، فهو أوَّلُ مَن اهتمّ بطبِّ الأطفالِ كفرعٍ مستقلٍ من فروعِ الطبِّ وأوَّل مَنْ اكتَشفَ انْتقالَ الأمْراضِ الوراثيّةِ من الآباءِ للأبْناءِ. صديقُ اليوم «كتابُ الحَاوي»، أوّل مَنْ أشَارَ لأهمية الطبِّ التَّجْريبي والذي كانَ الرَّازي أوَّل مَنْ قامَ بهِ، فكانَ يُجْري تَجاربَه ويجرِّبُ الدَّوَاء أوَّلا على القُرودِ قَبْل تجْربَتها على الإنسانِ، وتَشْهَدُ صَفَحاتُ صَديقِ اليومِ أنّ الرَّازي أوَّل مَنْ ابتكرَ ما يُسمّى بالطبِّ النَّفْسي، وأثبت تأثر الجسْمِ بالحَالةِ النَّفْسيّةِ للمريضِ، كما أنَّهُ أوَّلُ مَنْ فرَّقَ بَيْنَ مرضِ الجُدريَّ، والحُصْبة، وَكَما تُنادي أحْدثُ النَّظريّاتِ الطبيّةِ اليومَ كانَ كتابُ الْحَاوي في الطبِّ أوَّلَ مَنْ عالَجَ بعضَ الأمْراضِ بالأغْذيةِ دون الأدْوية.

العِلْمُ طَائرٌ حُرٌّ، لا وطنَ له، تَغْريدُهُ بحدودِ الْكَوْنِ، لذلك فَقَدْ ظلَّت الكتبُ والمقالات التي ألَّفها الرَّازي - وعددها 229 كتابًا وعلى رأْسِها صديقُ اليومِ «كتابُ الحَاوي» - مَرْجعًا مهمًا في علمِ الطبِّ في أكبر جامعاتِ فَرَنْسا وَبريطانيا حتَّى القرن السابع عشر، ومَن منكمْ - أصدقائي - يحلمُ أنْ يصبحَ طبيبًا سيقترب أكْثَر مِنْ علم الرَّازي وفلسفتِهِ سَيَسْتَفيدُ بِعِلمِهِ الّذي سَبَقَ عَصْرَه في عِلاج الكبارِ والأطفالِ، وهَكذا تتواصَلُ الأَجيالُ.

 



قرأته لكم: سماح أبوبكر عزت