أَنْجَزَ «إِدْوَار مُونْك» سَنَةَ 1893 أَرْبَعَ نُسَخٍ مِنْ هَذِهِ
اللَوْحَةِ، تُوجَدُ ثَلاَثَ فِي مَتَاحِفِ النَرْوِيجِ، وَبِالخُصُوصِ فِي
المَتْحَفِ الَذِي يَحْمِلُ حَالِيًا اِسْمَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالَذِي
أَعَدَتْهُ بَلَدِيَةُ «أُوسْلُو» (Oslo) لِيَضُمَ أَعْمَالَهُ الَتِي أَهْدَاهَا
لِهَذِهِ المَدِينَةِ، قَرَابَةَ أَلْفٍ مِنَ اللَوَحَاتِ وَ4500 مِنْ رُسُومَاتِهِ
اليَدَوِيَةِ بِالقَلَمِ أَوْ الصِبَاغَةِ المَائِيَةِ وَ6 مَنْحُوتَاتِ ... أَمَا
النُسْخَةُ الرَابِعَةُ فَهِيَ الَتِي بِيعَتْ فِي هَذَا المَزَادِ وَتَعُودُ
مِلْكِيَتُهَا لِرَجُلِ الأَعْمَالِ السَيِد «بِيتَرْ أُولْسَنْ» (Peter Oslen)،
اِبْنُ أَحَدِ أَصْدِقَاءِ الرَسَامِ الَذِي أَهْدَاهُ إِيَاهَا «إِدْوَارْ مُونْك»
تَقْدِيرًا لِعَلاَقَتِهِمَا المُتَمَيِزَةِ...
لَـمْ يَتَمَالَكْ عَدْنَانُ نَفْسُهُ لِيُظْهِرَ لِزُمَلاَئِهِ
اِهْتِمَامَهُ بِالـمَوْضُوعِ، وَاسْتَأْذَنَ الأُسْتَاذُ أَحـْمَدُ فِي
التَدَخُلِ.
عَدْنَان: هَلْ بِإمْكَانِكُمْ، أُسْتَاذَنَا المُحْتَرَم، أَنْ
تَفْتَحُوا لَنَا شُرْفَةً لِلإِطْلاَلَةِ عَلَى حَيَاةِ هَذَا الفَنَانِ؟
الأُسْتَاذ أَحـْمَد: وُلِدَ «اِدْوَارْ مُونك» فِي 12 ديسمبر من
العامِ 1863 بِـ«لُوتَنْ» (Loten) فِي النَرْوِيجِ. وبَعْدَ ذَلِكَ، اِسْتَقَرَتْ
أُسْرَتُه بِمَدِينَةِ «كْرِيسْتِيَانِيَا» (Kristiania) الَتِي اِسْتُبْدِلَ
اِسْمُهَا عام 1925 بِـ«أُوسْلُو» وَبِهَا تَرَعْرَعَ وَشَبَ.وتَعَرَفَ عَلَى
أَعْلاَمِ المَدْرَسَةِ التَأْثِيرِيَةِ، وَبِالخُصُوصِ «فَانْ جُوخْ» (Van Gogh)
وَغُوغَانْ (Gauguin). وَاسْتَفَادَ كَثِيرًا مِنْ دُرُوسِ الرَسَامِ المَشْهُورِ
«لِيُونْ بُونَا» (Léon Bonnat) وَإِشْرَافِهِ عَلَيْهِ... ثُمَ اِسْتَقَرَ سَنَة
1892 في «بِرْلِينْ» (Berlin) بأَلـْمَانْيَا، أَنْجَزَ رُسُومَاتٍ مُتَمَيِزَةٍ
بِالطِبَاعَةِ عَلَى الحَجَرِ وَالخَشَبِ أَيْضَا، كَمَا بَدَأَ إِنْجَازَ
رُسُومَاتٍ لِتَزْيِينِ مَجْمُوعَةَ أَشْعَار «شَارْل بُودْلِيرْ» (Charles
Beaudlaire) «أَزْهَارُ الشَرِ» الَتِي لَـمْ يُكْمِلْهَا... تَنَقَّلَ بَعْدَ
ذَلِكَ بَيْنَ بَلْجِيكَا وَإِيطَالِيَا وَأَلـْمَانْيَا وَفَرَنْسَا، وَرَجَعَ
إِلَى مَوْطِنِهِ سَنَة 1908 بَعْدَ تَدَهْوُرِ أَحْوَالِهِ الصِحِيَةِ
وَإِصَابَتِهِ بِاضْطِرابَاتٍ عَصَبِيَةٍ. بَدَأَ سَنَة 1930 فِي رَسْمِ
جِدَارِيَاتٍ بِقَصْرِ بَلَدِيَةِ «أُوسْلُو»، غَيْرَ أَنَهُ لَـمْ يُتْمِمْهَا
لِإِصَابَتِهِ بِمَرَضٍ فِي عَيْنَيْهِ.
تُوُفِيَ فِي 23 يَنَايَرَ 1944 بِـ«إِيكْلِي» (Ekely) ، وَأَهْدَى
كُلَ أَعْمَالِهِ لـِمَدِينَةِ «أُوسْلُو» الَتِي أَقَامَتْ لَهَا مَتْحَفًا حَملَ
اِسْمَهُ وَفَتَحَ أَبْوَابَهُ للِجُمْهُورِ سَنَة 1963.
أَمَا أَنَا الَذِي يُقَدِرُنِي الأُسْتَاذُ لاِهْتِمَامِي البَالِغِ
بِحِصَصِهِ وَمَادَةِ الرَسْمِ، فَقَدْ هَيَأْتُ سَلَفًا تَعْرِيفياً لِلاِتِجَاهِ
التَعْبِيرِي. اِقْتَبَسْتُهُ مِنْ أَحَدِ المَرَاجِعِ المُحْكَمَةِ. قُلْتُ:
«التَعْبِيرِيَةُ اتِجَاهٌ فَنِي يَرْتَكِزُ عَلَى تَبْسِيطِ
الخُطُوطِ وَالأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ وَالأَحْجَامِ وَالظِلاَلِ، وَتَحْوِيلَهَا
إِلَى شُحْنَةٍ مِنَ الإِحْسَاسِ عَبْرَ تَقْوِيَةِ تَعَابِيرِ الوُجُوهِ، بِهَدَفِ
نَقْلِها إِلَى الـمُشَاهِدِ للتَأْثِيرِ فِيهِ».
كُنْتُ فَخُورًا بِالثِنَاءِ الَذِي خَصَنِي بِهِ الأُسْتَاذُ أَحْمَد
وَسَطَ زُمَلاَئِي، ثُمَ انتقَلنا إِلَى مَوْضُوعِ اللَوْحَةِ:
الأُسْتَاذُ أَحْمَد: تُعْتَبَرُ هَذِهِ اللَوْحَةُ مِنْ أَشْهَرِ
أَعْمَالِ «مُونْكْ»، إِذْ شَكَلَتْ نُقْطَةَ اِنْطِلاَقِ الحَرَكَةِ
التَعْبِيرِيَةِ كَكُلٍ وَأَضْحَتْ عَلاَمَةً لَهَا..
تُظْهِر اللَوْحَةُ فَضَاءً يُوحِي بِمَغِيبِ الشَمْسِ الَتِي
حَوَلَتِ السَمَاءَ حَمْرَاءَ آجُورِيَةٍ. وَقَنْطَرَة تَقِفُ فِي مُقَدِمَتِهَا
شَخْصِيَةٌ بِمَظْهَرِ هَيْكَلٍ عَظْمِي مُتَمَوِجٍ، وَبِعَيْنَيْنِ مَذْعُورتَينَ
وَفَمٍ مَفْتُوحٍ بِكَامِلِهِ، تَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى الأُذُنَين وَكَأَنَهَا
سَمِعَتْ صُرَاخًا حَادًا، كَمَا تَصْرُخُ كَرَدِ فِعْلٍ عَلَى ذَلِكَ، من جَرَاءَ
خَطَرٍ رُبَمَا تَعْتَقِدُهُ- مُحْدِقٍ بِهَا أَوْ يَتَعَقُبُهَا... يَمْشِي
خَلْفَهَا عَلَى الجِسْرِ شَخْصَانِ غَيْرُ عَابِئِينَ بِمَا يَحْدُثُ وَكَأَنَ
الحَالَةَ لاَ تَعْنِيهِمَا، بَيْنَمَا فِي الخَلْفِ يَظْهَرُ فَضَاءٌ وَقَدْ
أَثَرَ الصُرَاخُ فِيهِ وَانْعَكَسَ عَلَيْهِ... يَظْهَرُ المَنْظَرُ الخَلْفِيُ
البَعِيدُ عَنِ الأَلمَِ وَالذُعْرِ اللَذَينِ أَلمَاَ بِهَذِهِ الشَخْصِيَةِ
وَهُوَ يَتَقَبَلُ هَذَا الصُرَاخَ مُتَأَثِرًا بِهِ إِلَى دَرَجَةِ أَنَ السَمَاءَ
اِتَخَذَتْ لَوْنًا أَحْمَر آجُورِيًا... هَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ نَقْرَأَهُ فِي
اللًَوْحَةِ، وَأُضِيفُ لَكُمْ مَا كَتَبَهُ مُونِك فِي مُذَكِرَاتِهِ عَنِ
اللَحْظَةِ وَالحَدَثِ اللَذَين أَوْحَيَا لَهُ بِرَسْمِهَا: «فِي مَغِيبِ شَمْسِ
أَحَدِ الأَيَامِ، أَحْسَسْتُ فَجْأَةً وَأَنَا أَمْشِي فِي الطَرِيقِ مَعَ
صَدِيقَيْنِ بِمَوْجَةِ كَآبَةٍ تَهُبُ وَتَلِفُ المَكَانَ، اِتَخَذَتْ بِفِعْلِهَا
السَمَاءُ لَوْنًا أَحْمَرَ كَالدَمِ القَانِي. تَوَقَفْتُ بَعْدَ أَنْ أَحْسَسْتُ
بِتَعَبٍ مُمِيتٍ خَارَتْ قُوَايَ مِنْ فَرْطِهِ. رَأَيْتُ سُحُبًا مُلْتَهِبَةً
يَقْطَعُهَا سَيْفٌ فَوْقَ قَنَاةِ المَدِينَةِ الَتِي اِتَخَذَتْ لَوْنًا أَزْرَق
دَاكِنًا وَمُظْلِمًا. تَسَمَرْتُ فِي مَكَانِي وَأَنَا أَرْتَجِفُ خَوْفًا،
بَيْنَمَا صَدِيقَاي تَابَعَا سَيْرَهُمَا. ثُمَ سَمِعْتُ صُرَاخًا قَوِيًا وَلاَ
مُتَنَاهِ يَخْتَرِقُ الفَضَاءَ وَالمَكَانَ».
وَكَتَبَ فِي مَا بَعْدُ (لَقَدْ جَسَدْتُ هَذَا الإِحْسَاسَ فِي
لَوْحَةِ «الصَرْخَة» وَرَسَمْتُ الغُيُومَ وَكَأَنَهَا دَمٌ حَقِيقِيٌ
وَاسْتَعْمَلْتُ أَلْوَانًا صَارِخَةً).
ثُمَ طَلَبَ مِنَا الأُسْتَاذُ أَحْمَدُ كِتَابَةَ تَقْرِيرٍ لَهُ
حَوْلَ قِراَءَةِ هَذِهِ اللَوْحَةِ فِي ضَوْءِ المَعْلُومَاتِ القِيِّمةِ الَتِي
أَمَدَنَا بِهَا. وَأَوْصَانَا بِالبَحْثِ وَمُشَاهَدَةِ شَرِيطٍ وَثَائِقِيٍ
حَوْلَ هَذَا الرَسَامِ بِعُنْوَانِ «رَقْصِ الحَيَاةِ» لِـ«بِيتَرْ وَاتْكِيْنس»
(Peter Watkins) أَنْتَجَهُ سَنَةَ 1974.