رَحَلْتُ.. ورَأَيْتُ: كَنَدا.. حَديقَةُ الدَّناصيرِ!: إعداد: العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأَيْتُ: كَنَدا.. حَديقَةُ الدَّناصيرِ!: إعداد: العربي بنجلون

رسم: إياد حمادة

عِنْدَما خَرَجْتُ مِنْ بَيْتي صَباحاً، كانَتِ السَّماءُ صافِيَةً، والشَّمْسُ ضاحِكَةً، والْجَوُّ دافِئاً، فَقُلْتُ في نَفْسي: لِماذا لا أَقْصِدُ الْغابَةَ، أَقْضي يَوْمي بَيْنَ أَشْجارِها الْمورِقَةِ، وأَطْيارِها الْمُزَقْزِقَةِ؟

ولَمْ آخُذْ معي الْمَطَرِيَّةَ، كَعادَتي دائماً، لأنَّني غالِباً ما أَنْساها هُنا أَوْ هُناكَ، فَأَشْتَري غَيْرَها، حَتَّى أَصْبَحْتُ هاوِيَ مَطَرِيَّاتٍ!

ولَمَّا وَصَلْتُ إلى الْغابَةِ، جَلَسْتُ تَحْتَ شَجَرَةٍ ظَليلَةٍ، تَتَدَلَّى غُصونُها الْمُثْقَلَةُ بِالْبَلُّوطِ، فَتَكادُ تُلامِسُ رَأْسي. وشَعَرْتُ بِراحَةٍ تامَّةٍ، وأنا أقْرَأُ كِتاباً تارَةً، وآكُلُ بَلُّوطاً تارَةً أُخْرى، حَتَّى انْتَفَخَ بَطْني! وفَجْأَةً، لَمْ أَشْعُرْ بِنَفْسي إلاَّ وأنا أَعْطِسُ عَطْسَةً قَوِيَّةً، أَفْزَعَتِ الطُّيورَ الآمِنَةَ، فَحَلَّقَتْ في السَّماءِ، تارِكَةً أَعْشاشَها الدَّافِئَةَ، كَما أنَّ الأرانِبَ والسَّناجِبَ والْقُرودَ، أَطْلَقَتْ قَوائمَها لِلرِّيحِ، تَجْري خائفَةً!

ولَمْ تَمْضِ إلاّ لَحَظاتٌ قَليلَةٌ، وإذْ بِالشَّجَرَةِ تَهْتَزُّ شَيْئاً فَشَيْئاً، كَأنَّها سَتَسْقُطُ فَوْقَ قُنَّةِ رَأْسي!

خِفْتُ مِنْ حَرَكَتِها غَيْرِ الْعادِيَّةِ، كَما خافَتِ الْحَيَواناتُ والطيور مِنْ عَطْسَتي، فَتَساءَلْتُ مُتَعَجِّباً: يا لَلْغَرابَةِ! ماذا يَحْصُلُ في هَذِهِ الْغابَةِ؟! لَمْ أَقْصِدْ بِعَطْسَتي أنْ أُخيفَ أَحَداً!

تَفَرَّسْتُ الشَّجَرَةَ في دَهْشَةٍ، ثُمَّ سَألْتُها غاضِباً:

ماذا تُريدينَ مِنِّي؟! ألا تَتْرُكينَنِي هادِئاً؟!

أَجابَني صَوْتٌ مَبْحوحٌ مِنْ داخِلِها: اِنْتَظِرْ قَليلاً، لا تَقْلَقْ، إنَّني أَسْتَعِدُّ لأَلْقاكَ!

دَعَكْتُ عَيْنَيَّ، غَيْرَ مُصَدِّقٍ، فيما كانَتِ الشَّجَرَةُ تَنْشَقُّ إلى قِسْمَيْنِ، لِيَظْهَرَ مِنْها دَيْنَاصورٌ طائرٌ، ذو جَناحَيْنِ طَويلَيْنِ، كَجَناحَيْ طائرَةٍ!

طَأْطَأَ رَأسَهُ (حَناهُ) قائلاً: أَشْكُرُكَ، سَيِّدي، ولَنْ أنْسى فَضْلَكَ عَلَيَّ!

تَلأْلأَتْ عَيْنايَ دَهْشَةً: ماذا فَعَلْتُ لِتَشْكُرَني؟!

رَدَّ عَلَيَّ: بَلْ فَعَلْتَ الْكَثيرَ الْكَثيرَ!..مُنْذُ آلافِ السِّنينَ، وأَنا نائِمٌ في جَوْفِ (داخِلِ) هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْهادِئَةِ، لا أَسْتَطيعُ الْقِيامَ، حَتَّى عَطَسْتَ فَأَيْقَظْتَنِي!

فَكَّرْتُ قَليلاً، ثُمَّ قُلْتُ مُوافِقاً: حَقاًّ ما تَقولُ!..لَوْ لا عَطْسَتِي لَبَقيتَ نائماً في هَذا الْمَكانِ الْهادِئِ، الَّذي لا يَأْتيهِ أَحَدٌ!

في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَلَبَّدَ (تَجَمَّعَ) الْغَيْمُ في السَّماءِ، وعَبَسَ وَجْهُ الشَّمْسِ، وهَبَّتِ الْعاصِفَةُ، وقَصَفَ الرَّعْدُ، ولَمَعَ الْبَرْقُ، ثُمَّ بَدَأَ الْمَطَرُ يَهْطِلُ شَلاَّلاً!

بَسَطَ الدَّيْنَاصورُ جَناحَيْهِ، يَحْمينِي مِنَ الْمَطَرِ، فَشَعَرْتُ بِالدِّفْءِ، وتَمَنَّيْتُ لَوْ يَأْخُذُنِي سُلْطانُ النَّوْمِ تَحْتَهُما، لَكِنَّهُ مَدَّ لي قائِمَتَيْهِ الطَّويلَتَيْنِ قائلاً: أُريدُ أَنْ أَزورَ حَديقَةَ (بارْكْ) لأَتَرَحَّمَ على أَجْدادي الدَّناصيرِ، فَفيها عاشوا قُروناً ودُفِنوا!

قُلْتُ لَهُ مُعْجَباً بِفِكْرَتِهِ: حَسَناً تَفْعَلُ، يا صَديقي، فَأَنا أيْضاً أتَرَحَّمُ على جَدَّيَّ كُلَّ جُمُعَةٍ!

قالَ: إذَنْ، نَحْنُ مَعاً مُتَّفِقانِ، فَأَمْسِكْ بِقائمَتَيَّ جَيِّداً، كَأَنَّكَ في أُرْجوحَةٍ، وهَيَّا بِنا!

سَأَلْتُهُ في دَهْشَةٍ: وأَيْنَ توجَدُ هَذِهِ الْحَديقَةُ؟!

أجابَني: لا أَدْري، لأنَّ في عَصْرِنا الْقَديـمِ لَمْ تَكُنْ هُناكَ دُوَلٌ ومُدُنٌ وقُرى، لَكِنْ، عِنْدَما تَصِلُ الْحَديقَةَ، يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْأَلَ أَيَّ طِفْلٍ في سِنِّكَ، يَذْكُرُ لَكَ اسْمَها، ورُبَّما يَأْخُذُكَ في جَوْلَةٍ!

أَمْسَكْتُ بِقائِمَتَيْهِ، فَحَرَّكَ جَناحَيْهِ، وحَلَّقَ في السَّماءِ، يَجْتازُ بِي الْجِبالَ والسُّهولَ، والْبُحورَ والدُّوَلَ، حَتَّى أَطَلَّ على الْحُدودِ الْجَنوبِيَّةِ والشَّمالِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ لأَمْريكا، فَعَرَفْتُ أنَّ حَديقَةَ الدَّناصيرِ توجَدُ في كَنَدا، ثانِي أَكْبَرِ دَوْلَةٍ في الْعالَمِ مِساحَةً! وعِنَْدما أَنْزَلَني، سَقَطَتْ دَمْعَتانِ مِنْ عَيْنَيْهِ، فَأَعْطَيْتُهُ مِنْديلاً شَفَّافاً يَمْسَحُ بِهِ خَدَّيْهِ، وضَمَمْتُهُ إلى صَدْري. وبَيْنَما نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ بِطِفْلَيْنِ يَقْتَرِبانِ مِنِّي، فَحَيَّاني الأَوَّلُ بِالْفَرَنْسِيَّةِ، والثَّاني بِالإنْجَليزِيَّةِ، فَرَدَدْتُ التَّحِيَّةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ سَأَلْتُهُما: مِنْ أَيِّ بِلادٍ أَنْتُما؟

أَجابَني الأَوَّلُ باسِماً: أَنا مِنْ كَنَدا الْعُلْيا النَّاطِقَةِ بِالإنْجَليزِيَّةِ! وتابَعَ الثَّاني: وأَنا مِنْ كَنَدا السُّفْلى النَّاطِقَةِ بِالْفَرَنْسِيَّةِ!

قُلْتُ وأَنا أُبْعِدُ عَنِّي الدَّيْنَاصورَ، وأُقَرِّبُهُما مِنِّي: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ بِلادَكُما مُقَسَّمَةٌ إلى إِقْليمَيْنِ!

قاطَعَني الطِّفْلُ الأَوَّلُ: لا، لا يَذْهَبُ عَقْلُكَ بَعيداً، بَلَدُنا مُتَّحِدٌ مُنْذُ عام 1841 بِاسْمَ (كَنَدا) وقَبْلَ تِلْكَ السَّنَةِ، كانَ أَقاليمَ بِأَسْماءٍ مُتَنَوِّعَةٍ، مِنْها (فَرَنْسا الْجَديدَةُ)!

وقالَ الطِّفْلُ الثَّاني: في عامِ 1535 أَتى الرَّحالَةُ (جاكْ كارْتْييهْ) إلى بِلادي، فَسَأَلَ شابَّيْنِ هِنْدِيَّيْنِ عَنْ طَريقٍ ما، فَأَجاباهُ بِاللُّغَةِ الأَصْلِيَّةِ (الأوروقِيَّةِ) بِأَنَّها (كاناتا) وتَعْني هَذِهِ الْكَلِمَةُ (قَرْيَةً) فَأَطْلَقَ كارْتْييهْ (كَنَدا) على كُلِّ الْبِلادِ بِمُدُنِها وقُراها!

سَرَّحْتُ بعَيْنَيَّ في الْحَديقَةِ، فَرَأَيْتُها فَسيحَةً، لا يَحُدُّها الْبَصَرُ، تَبْلُغُ حَوالَيْ أَرْبَعَةً وعِشْرينَ كيلومِتْراً، كُلُّها مُرْتَفَعاتٌ ومُنْحَدَراتٌ صَخْرِيَّةٌ، وأَوْديَةٌ جافَّةٌ، كانَتْ في الْعُصورِ الْقَديـمَةِ تَسْقي السُّهولَ الَّتي تَحَوَّلَتِ إلى أَراضٍ رَمْلِيَّةٍ وصَخْرِيَّةٍ.

لَكَزَني الطِّفْلُ الأَوَّلُ ضاحِكاً: إِيهِ، أَيْنَ سَرَحْتَ عَنَّا بِتَفْكيرِكَ؟!

اِلْتَفَتُّ إِلَيْهِ قائلاً: كُنْتُ أُفَكِّرُ في هَذِهِ الْحَديقَةِ الْخالِيَةِ مِنَ الْبَشَرِ والطَّيْرِ والشَّجَرِ إِلاَّ مِنَ الْحَجَرِ!

قالَ الطِّفْلُ الثَّاني: كانَتْ هَذِهِ الأَرْضُ قَبْلَ خَمْسَةٍ وسَبْعينَ مِلْيونَ عامٍ، غابَةً وأَنْهاراً، يَعيشُ فيها خَمْسَةٌ وأَرْبَعونَ جِنْساً مِنَ الدَّناصيرِ، الْبَرِّيَّةِ والْبَحْرِيَّةِ والْجَوِّيَّةِ والْبَرْمائيَّةِ. ويوجَدُ مِنْها الآنَ مِئةٌ وخَمْسونَ هَيْكَلاً، مُوَزَّعاً على ثَلاثينَ مَتْحَفاً.

جَذَبَني الطِّفْلُ الأَوَّلُ ناصِحاً: كَفانا حَديثاً عَنِ الدَّناصيرِ، وهَيَّا تَجولْ مَعَنا في بَعْضِ الْمُدُنِ الْكَنَدِيَّةِ!

قُلْتُ لَهُ، والابْتِسامَةُ تَرْتَسِمُ على شَفَتَيَّ: لِنَبْدَأْ بِكَنَدا السُّفْلى!

ويَظْهَرُ أَنَّ فِكْرَتي أَعْجَبَتِ الطِّفْلَ الْفَرَنْسِيَّ، فَالْتَفَتَ مُؤَكِّداً: حَسَناً ما قُلْتَ، صَديقي! هَذِهِ مَدينَةُ «مونْتِرْيالْ» ثانِي أَكْبَرِ الْمُدُنِ الْفَرَنْسِيَّةِ في الْعالَمِ. تَشْتَهِرُ بِمينائِها الْكَبيرِ، وسوقِها التِّجارِيِّ الأَكْبَرِ عالَمِياًّ، يَتَوَفَّرُ على سَبْعِ مَحَطَّاتٍ لِقِطارِ الأَنْفاقِ (الْمِتْرو)!

وتِلْكَ الْمَدينَةُ التَّاريـخِيَّةُ الْعَتيقَةُ (كيبيكْ) على ضِفَّةِ نَهْرِ (سانْ لورَانْ).. سَتُدْهِشُكَ طُرُقُها الْمُرَصَّفَةُ بِالْحَصى، وبُيوتُها الْمَبْنِيَّةُ بِالأَحْجارِ، الْمُحاطَةُ كَالْقَلْعَةِ بِالأَسْوارِ. ومَخازِنُ مينائها ضَخْمَةٌ لِحِفْظِ الْغِلالِ والْحُبوبِ، كَأَنَّها صَوامِعُ، عَرْضُها سِتُّمِائَةِ مِتْرٍ، وعُلُوُّها أَرْبَعونَ مِتْراً. وبِها مَعامِلُ نََشيطَةٌ، مُنْتِجَةٌ لِلْوَرَقِ، والإِسْمَنْتِ، والأَدْوِيَّةِ، ودِباغَةِ الْجُلودِ، ومُصَنِّعَةٌ لِلسُّفُنِ. ومِنْ آثارِها قَصْرُ (أَرْميسْ) ومَعْهَدُ (لافالْ) وقَلْعَةُ (النَّجْمِ اللاَّمِعِ) والْقَصْرُ الْقَديـمُ لِلْمَلِكِ. وبِضاحِيَتِها تَقَعُ شَلاَّلاتُ (مونْتْمورِنْسي) بِعُلُوِّ أَرْبَعَةٍ وثَمانينَ مِتْراً. تَتَجَمَّدُ شِتاءً، وتَذوبُ صَيْفاً، لِتَجْرِيَ مِياهاً عَذْبَةً. كما نَبْني، كلَّ عامٍ، فُنْدُقاً مِنَ الثَّلْجِ، جُدْرانُهُ وسُقوفُهُ هَياكِلُ مَعْدِنِيَّةٌ، نَمْلأُها بِأَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ طنٍّ ثَلْجاً، وثَلاثِمِائَةٍ وخَمْسينَ طناًّ من الجليد. ويَبْلُغُ سُمْكُ الْجِدارِ مِتْراً وعِشْرينَ سَنْتِيمِتْراً، بِعُلُوِّ عَشْرَةِ أَمْتارٍ. يَضُمُّ غُرَفاً ومَدافِئَ، وقاعَةَ سينِما، وحَمَّاماتٍ ومَكْتَباتٍ، وقاعَةَ الْحَفَلاتِ، ونَوادِيَ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبوتِيَّةِ!

تَلأْلأَتْ عَيْنايَ عَجَباً، فَقُلْتُ لِلطِّفْلِ الإنْجَليزِيِّ: أَسَمِعْتَ ما قالَهُ صَديقُكَ؟

أَجابَني بِثِقَةٍ: أَجَلْ! لَكِنَّكَ لَنْ تَعْرِفَ بِلادَنا جَيِّداً، حَتَّى تَرى مُدُنَاً أُخْرى في كَنَدا الْعُلْيا! فَالْعاصِمَةُ هِيَ (أُوتَوا) الَّتي تَعْني (التَّبادُلَ)..تَبادُلَ الأَفْكارِ والأَعْمالِ. ويَصِفونَها بِمَدينَةِ السِّلْمِ والتَّعايُشِ، إِذْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أو الإِنْجَليزِيَّةِ أَوِ الْفَرَنْسِيَّةِ!

قاطَعْتُهُ مُسْتَغْرِباً: أَتَعْرِفُ ماذا تَقولُ؟! كَيْفَ يُمْكِنُني أَنْ أَتَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ؟! هَلْ أَنا في كَنَدا أَمْ في الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ؟!

رَدَّ عَلَيَّ بِابْتِسامَةٍ رَقيقَةٍ: يَنْبَغي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ تَحْتَلُّ في كَنَدا الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ، لأَنَّ الْعَرَبَ الْمُهاجِرينَ كَثيرونَ، يَسْكُنونَ في كُلِّ أَحْيائها الشَّعْبِيَّةِ والرَّاقِيَّةِ.

لَمْ يُبالِغْ صَديقي في كَلامِهِ، فَعِنْدَما سِرْنا في شَوارِعِها، كُنَّا نَجِدُ دَكاكينَ أَوْعَرَباتٍ لِمُهاجِرينَ مَغارِبَةٍ ولُبْنانِيِّينَ ومِصْرِيِّينَ، بَلْ حَتَّى في الْمَشافي والْمَدارِسِ والأَسْواقِ النَّموذَجِيَّةِ. وإِنْ أَنْسَ، فَلَنْ أَنْسى نَهْرَ (الرِّيدو) أَيْ (السِّتارُ أَوِ الْحاجِزُ) الَّذي يَمُرُّ بِوَسَطِها. فَهَذا النَّهْرُ يَتَجَمَّدُ شِتاءً، لِيَتَحَوَّلَ إلى حَلَبَةٍ لِلتَّزَلُّجِ، ويَذوبُ صَيْفاً، لِيَصيرَ مِياها جارِيَةً!

هَذا في الشِّتاءِ، أَمَّا في الرَّبيعِ، فَإِنَّ سُكَّانَها يَتَمَتَّعونَ بِرُؤْيَةِ مِلْيونِ زَنْبَقَةٍ تَتَفَتَّحُ شَيْئاً فَشَيْئاً، وبِأَكْبَرِ حِزامٍ أَخْضَرَ في الْعالَمِ، يُغَطِّي مِئَتَيْ كيلومِتْرٍ مُرَبَّعٍ، وفي الصَّيْفِ، بِرِياضَةِ الطَّوافِ بِالْقَوارِبِ أَوِ السِّباحَةِ في النَّهْرِ. كما يَتَحَوَّلُ الأَطْفالُ إلى فَنَّانينَ ونَحَّاتينَ، يُبْدِعونَ مِنَ الرِّمالِ قُصوراً ودوراً، وحَيَواناتٍ!

وإِذا كانَ لِكُلِّ عاصِمَةٍ (بُرْجٌ) يَصْعَدُ الزَّائرونَ قِمَّتَهُ، لِيُشاهِدُوها مِنْهُ، ويَلْتَقِطوا صُوَراً لَها، فَإِنَّ الْبَرْلَمانَ التَّاريـخِيَّ بِأُوتاوا، يَحْتَضِنُ (بُرْجَ السَّلامِ) الَّذي يُذَكِّرُ النَّاسَ بِتَضْحِيَّةِ سِتِّينَ أَلْفَ مُتَطَوِّعٍ مِنْ أَبْنائِها في الْحَرْبِ الْعالَمِيَّةِ الأولى.

اِنْتابَني شُعورٌ بِأَنَّني لَنْ أُنْهِيَ جَوْلَتي لِكَنَدا، ولَوْ بَقيتُ فيها مِئَةَ سَنَةٍ لِشَساعَتِها. فَشَكَرْتُ صَديقَيَّ، ودَعَوْتُهُما لِزِيارَةِ الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ، الْغَنِيِّ بِطَبيعَتِهِ وحَضارَتِهِ، ثُمَّ عُدْتُ إلى حَديقَةِ بارْكْ، فَوَجَدْتُ الدَّيْنَاصورَ يَنْتَظِرُني قَلِقاً!.. قالَ لي بِعَيْنَيْنِ باسِمَتَيْنِ، وهُوَ يُشيرُ إلى شَيْءٍ في حِضْنِهِ: اُنْظُرْ جَيِّداً ما أَحْمِلُهُ مَعي!

أَرْسَلْتُ نَظَري، فَرَأَيْتُ بَيْضَةً: مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهَذِهِ الْبَيْضَةِ؟!

طَمْأَنَني قائلاً: لَقَدْ عَثَرْتُ عَلَيْها بَيْنَ الصُّخورِ، مَدْفونَةً في كُتْلَةٍ مِنَ الْجَليدِ، فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَها مَعي، وأَحْضُنَها أَسابيعَ إلى أَنْ تَفْقِسَ، فَأُرَبِّي فَرْخَها، لِيَسْتَمِرَّ نَسْلُ الدَّناصيرِ!

قُلْتُ لَهُ، وأَنا أَمْسِكُ بِقائمَتَيْهِ: حَسَناً تَفْعَلُ، صَديقي! لَكِنْ، عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّبَهُ وتُهَذِّبَهُ، كَيْلا يُؤْذِيَ الطُّيورَ الضَّعيفَةَ، ويُعامِلَها بِالرِّفْقِ، فَنَحْنُ نَعيشُ في عَصْرِ السِّلْمِ والأَمْنِ، لا في عَصْرِ الدَّناصيرِ، عَصْرِ الْبَقاءِ لِلأَقْوى!

هَزَّ رَأْسَهُ مُوافِقاً، وحَلَّقَ في السَّماءِ، عائداً بي إلى عالَمي الْعَرَبِيِّ الْجَميلِ!

 



إعداد: العربي بنجلون