الزيتون أغلى

الزيتون أغلى

رسم: عفراء اليوسف

كانت أمل تراقبُ جدّتها وهي تقطفُ حبّات الزيتونِ من الأشجارِ في بستانها الصغيرِ خلفَ الدار. قد لفت نظرها كيف تمسك جدتها حبّةَ الزيتونِ وكأنها شيءٌ نادرٌ وغالٍ على قلبِها. حيث تحيطُ يداها حبّةَ الزيتونِ وتمسحُ عنها الغبارَ، ثم تقرّبها من أنفِها وتغمضُ عينيها وهي تشمُ الثمرةَ.

سرحَ خيالُ أمل، وسألت جدّتها ممازحةً: لمَ لا تزرعي الجواهرَ في بستانِك يا جدتي؟

أجابتها الجدّةُ بسرعةً ومن دون تردد: لأن الزيتون أغلى يا حبيبتي

ابتسمت أمل وأغمضت عينيها قليلاً حيث استشعرت بعضًا من نعاس، ولابد أنها قد أغفت، كأنها رأت حلمًا غريبًا

رأت دار جدّتها نفسها وبستانها نفسه بنفس عدد الأشجارِ، لكن الثمارَ كانت حقًا مختلفةٌ كثيرًا، فالثمار هي جواهرٌ حقيقيةٌ من كل الأنواعِ والألوانِ، بريقها يخطفُ الأبصارَ. تشع انعكاسات لونية كقوس قزح في كل الاتجاهاتِ، في البستانِ وعلى حائطِ البيتِ القديمِ، وعلى وجه أمل.

ركضت أملٌ مذهولةً، هل هذا هو بستان جدتها حقًا؟

هل من الممكن أنها الآن أصبحت ثريةً وتستطيع أن تشتري ما تشاء؟

هرعت إلى البيت وأحضرت سلةً متوسطةَ الحجمِ. فكرت بينها وبين نفسها هذه تكفي الآن، وسأشتري أخرى أكبر من السوقِ.

صارت تقطفُ اللآلئَ والياقوتَ والفيروزَ وبعضًا من الأوراقِ الذهبيةِ، ظلت تقطفُ وتغني بعينين متلألئتين إلى أن ملأت سلّتها، ثم قالت لجدتها: أنا ذاهبةٌ - يا جدتي - لأبيعَ هذه المجوهرات وأشتري لنا بعضَ الملابسِ والطعامِ وأشياء أخرى. لم تجب جدّتها.

هرولت أملٌ إلى دكان الصائغ في آخر الشارع. وقد ذُهلت حين شعرت في طريقها أن شيئًا غريبًا يحدث في الحي. فبإمكانها أن تسمع صيحاتَ الفرحِ وصرخات الدهشةِ من جميعِ البيوتِ.

طرقت بابَ صديقتها هدى، التي فتحت لها البابَ وفي يدها سلةً أكبر من سلّتها، وأيضًا مليئةً بالمجوهرات الغاليةِ

لم تنتظر هدى أية أسئلة، بل شدّت أمل من يدها قائلةً: «هيا يا عزيزتي تعالي معي، أريد أن أذهب إلى الصائغ لأبيع ثمارَ بستاننا.. أقصد «همست ضاحكةً» المجوهرات التي نبتت فجأةً على أشجارِنا، أليس هذا رائعًا؟: .. آه.. ولن أنسى أن أشتري لك الكثير من الهدايا يا صديقتي العزيزة، لا تقلقي.

ثم ضحكت ثانيةً وتقافزت على طول الزقاقِ المؤدي إلى دكان الصائغِ، ما لبثت الفتاتان أن اكتشفتا أن ما حدث معهما حدث مع كل أهالي الحي، بل المدينة، بل العالم كله كانت وكالاتُ الأنباءِ في المذياعِ والتلفازِ لا تتكلم إلا عن الأشجارِ التي تثمر مجوهرات في كل مكان.. يا للغرابة

أكملت الفتاتان طريقَهما إلى الصائغ أبو ميخائيل.. وعندما وصلتا هناك، وجدتا أبو ميخائيل واقفًا أمام باب دكانه ممتقع الوجه يخاطب صفًا طويلاً من الناسِ أمام دكانَه، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخًا. يحملون جميعًا سلالاً من كلِّ الأحجامِ مليئةً بالجواهرِ من كل الأنواعِ.

قال الصائغُ: «أرجوكم افهموني يا ناس، أنا لن أستطيع أن أشتري المزيد من المجوهرات، لقد قلت لكم مرارًا وتكرارًا، لم أعد أملك المال الكافي لشراء كل هذا القدر منها».

ثم لمعت عيناهُ وهو يقول بلغةِ التاجرِ الخبيرِ «ثم قولوا لي إن كانت هذه المجوهرات تنبت على كل الأشجارِ، وفي كلِّ البيوتِ، فمَن سيشتري مني حينها؟ ها؟...». ثم ما لبث أن أضاف بنفاد صبرٍ: «اذهبوا واسألوا صائغًا آخر».

تفرّق الجمعُ، منهم مَن ذهب إلى أبو محمود الصائغ، ومنهم من ذهب إلى أرتين الصائغ، ثم ذهبوا إلى أبعد صائغ في المدينةِ، ثم المدنِ المجاورةِ، ثم البلدان المجاورة، لكن دون فائدة.

مرّت الأيامُ، لم يشتر أحدٌ أيّ نوع من أنواعِ الحليّ والذهبِ، ثم كان هناك أمر آخر، هو أن الخضار والفاكهة بدأت تنفد من السوقِ. لا بل من الأسواقِ كلّها في جميع أنحاء العالم، فالأشجار تُنبتُ المجوهرات، ودوالي العنب تتدلى منها حبّاتٌ من الزمردِ بدلاً من العنبِ الطازج المليء بالعصير الطيب، نبات البندورة أيضًا يُثمر الآن حبّات الياقوت الأحمر بدلاً من البندورة ذات الرائحة الذكية.

بعد مرور بضعة أيام، خرجت أمل إلى ساحةِ الحيّ، علّها تستطيع شراء أيّ نوعٍ من الطعامِ تسدُّ به رمقها هي وجدّتها المريضة من شدّة الإعياءِ والجوعِ.

سارت وسارت في الطرقاتِ، لم تجد سوى الجواهرَ اللعينةَ مرميةً على قارعةِ الطريقِ، تدوسها أقدامُ الناسِ الجائعةِ، يسيرون حاملين أطفالَهم الصارخينَ من الجوعِ والدموعِ ملء العيونِ.

لقد كان ذلك رهيبًا وفوق طاقة احتمالها، حاولت العودة مهرولةً إلى البيتِ حين اصطدمت فجأةً بفتاةٍ. احتاجت بعضًا من الوقتِ حتى تتعرّف عليها، إنها صديقتها هدى، لقد كانت هزيلةً جدًا، وكانت تحملُ بين ذراعيها أخاها الصغير وهو يبكي أيضًا من الجوعِ.

أحسّت بالإعياءِ الشديدِ وسط جموعِ الأطفالِ الراكضين في الشوارعِ تتدلى من جي